شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لماذا لم يكمل نوري السعيد الكلمة؟!
وبمناسبة الارتجاج الذي اعترى تلك الشخصية الشهيرة في إلقاء كلمته فقد كان موضع تساؤلنا فيما بعد، ولفت نظرنا، حتى علمنا ممن كان معنا أن نوري السعيد لم يكن خطيباً ولم يتعود على الارتجال، فقد كانت تربيته وتعليمه في المدارس التركية، ومن أجل ذلك عرف عنه ما أشرت إليه، وقد حدثني بهذه الظاهرة أحد زملاء نوري باشا السعيد فقال: إن نوري كان فعالاً لا قوالاً، وإنه كان يرتبك في كلامه إذا اقتضت الحاجة أو الظروف إلى أن يتكلم ويطيل أمام جمع من الناس، حتى إنهم يذكرون أنه عندما كان في معية فيصل بن الحسين يوم نودي به ملكاً على سوريا في نهاية الحرب العظمى الأولى، جاءت مظاهرات شامية صاخبة تحيي الملك في قصره بمحلة "المهاجرين" من دمشق، وأخذ الملك يطل على الجموع التي كانت تحييه وتهتف له حتى رأى أن يستريح من هذه المهمة، فطلب من نوري باشا أن يخرج إلى الشرفة، ويلقي كلمة شكر على الجماهير الملتفة حول القصر، فخرج نوري إلى الشرفة وأشار بيده للجمهور أن يستمع إلى ما سيلقي عليهم، فلما أنصت الناس له بدأ خطابه بقوله: أيها الإخوان الأعزاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإنه ليسرني أن أزف إليكم.. ثم ارتج عليه ولم يكمل الجملة ولم يواصل الكلام، والملك فيصل يستمع إليه في هذا الموقف، فما كان منه إلا أن أمر مرافقه ووزيره بعد ذلك "حيدر رستم" وهو لبناني من البقاع، أن يقف موقف نوري ويخاطب الجماهير، فألقى رستم خطاباً مطولاً، كان له الأثر الطيب فيمن سمعه هناك.
وانصرفت البعثة إلى سياراتها منطلقةً إلى ديوان وزارة المعارف، حيث كان وزيرها صالح جبر، وهو صاحب الدعوة لها لزيارة العراق، فدخلنا ديوانه، يتقدمنا الدكتور محمد فاضل الجمالي، والدكتور قسطنطين زريق، والدكتور شارل مالك، فكان ترحيب الوزير ترحيباً حاراً ما لبث أن رد على كلمة شكر من الدكتور قسنططين زريق، بكلمة حماسية أشاد فيها بروح الأخوة العربية، ووجوب التزاور بين أبناء الأمة العربية، وبالأخص طلاب جامعاتها، ومدارسها، وذكر فلسطين والوحدة العربية فتحمس، وحمس السامعين، وقال: إن العرب يستطيعون إذا توحدوا أن يقضوا على هذه الفكرة الصهيونية قبل أن يكون لها كيان، وأسهب بعد ذلك إسهاباً حماسيًّا في هذا الموضوع تجاوبنا معه بحماس ملتهب مثله!
ثم ودعناه متنقلين على وزارات أخرى، وكانت وزارة الدفاع قد دعت البعثة لزيارة مطار "الرشيد" لرؤية السرب الأول من الطائرات العسكرية التي كانت تملكه، فوصلنا إلى المطار في الوقت المحدد، وكان في استقبالنا كبار ضباطه والمسؤولين عنه، وعدد من النسور الطيارين الذين أحضروا مجموعة من الطائرات وهيأوها مزودة بالوقود، ودعوا – بعد إلقاء خطب متبادلة بين كبارهم وكبار أساتذة البعثة – جميع أفرادها للقيام بجولة جوية على تلك الطائرات، تقتصر على بعض أحياء بغداد ومجرى نهر دجلة، والعودة بعد ذلك إلى نفس القاعدة والمطار، فعلاَ الابتهاج وجوه جميع أفراد البعثة، كما علا الوجل والتردد وجوه بعضهم، وقيل لنا إن كل واحد منا سيركب مع طيار على واحدة من تلك الطائرات ذات المحرك الواحد، في المقعد الواحد المكشوف خلف الطيار، وسيكون الطيار تحت إمرة الراكب إذا أراد أن يطيل الجولة أو يختصرها، فصاح الدكتور شارل مالك بين المجتمعين وهو يقول: إنني أطلب من الطيار الذي سأركب طائرته أن يعتلي بي في الجو قدر ما يستطيع وتتحمله قوة الطائرة، ثم أرجوه إذا وصلنا إلى ذلك العلوّ أن يتقلب في الجو لأرى وأشعر كيف سيكون شعوري وتكون نفسيتي وأحاسيسي عندما تهوي الطائرة بنا إلى قرب الأرض، ثم ضحك وهو يقول: على شرط أن يتمكن الطيار بعد تلك الدقائق التي يهوي بي فيها من أن يحافظ على توازن الطائرة لئلا تصطدم بالأرض ويكون في ذلك القضاء على حياتي وحياته.
ولقد ضحك الجميع من المتجمهرين حوله من الطيارين والضباط، وضحك زملاؤه في البعثة، وحاول الدكتور زريق أن يثنيه عما أصر عليه، فأبى في انفعال ضاحك، إلا أن يخوض هذه التجربة، فاختار له مدير المطار طياراً سماه وناداه وقال له: هذه رغبة الدكتور مالك، ثم ابتسم وهو يقول له: واحرص على سلامته.
وبدأ الدكتور مالك هذه المحاولة وكان الأول في الطيران على إحدى تلك الطائرات، فربط في مقعده، وانطلقت به الطائرة عالياً وقد تعلقت به أبصارنا نريد أن نرى كيف سينفذ الطيار شرط الدكتور مالك، فاعتلت الطائرة علوًّا رأيناه كبيراً فذلك أول عهدنا بمعرفة الطائرات والركوب فيها، إذا لم نقل برؤيتها، ثم رأيناها فجأة وقد أصبحت فوق مجرى نهر دجلة تتقلب به وتهبط وتصعد، وبعد أن قامت ببضع جولات فوق بغداد عادت فهبطت في المطار، وتوقفت أمام الحاضرين والدكتور يلوح بذراعيه للسلام على من فارقهم منذ برهة، ثم حلت أربطته وأعين على الخروج من ذلك المقعد الضيق في تلك الطائرة الصغيرة، وأقبل الضباط وأعضاء البعثة يصافحونه ويرحبون به ويهنئونه على تلك التجربة التي أحب أن يقوم بها وعلى عودته إلى الأرض سالماً، ثم جاء الدور لكل واحد من أعضاء البعثة أن يركب إحدى الطائرات الخمس ويحلق بها برهة من الزمن فوق الأحياء القريبة من بغداد وفوق مجرى نهر دجلة ليعود بعد ذلك إلى حيث كان سالماً، وجاء دوري وأنا أردد في نفسي:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ومر ببالي قول شوقي في ركوب الطائرة:
أركب الليث ولا أركبها
وأرى ليث الشري أوفى ذماماً
بعد أن رأيت أن لا مهرب لي مما دعيت إليه واسمي مطبوع بين أعضاء تلك البعثة وفي رقاع الدعوات والزيارات بأنني ممثل الجزيرة العربية كما أشرت في مستهل أحاديث هذه الرحلة، فتوكلت على الله، وحملني ضابط فقذف بي في مقعد الطائرة المكشوف، إذ لا باب لها، ثم تعاون مع زميله في ربط الأحزمة التي سمرتني وشدتني إلى قاع المقعد، كما جرى لجميع من طاروا فرادى، فرادى، من زملائي، وانطلقت بي الطائرة والطيار يرفع صوته عالياً ويسألني: أين تريدنا أن نتجول؟
فقلت له: حيث تريد، ولكني أريد أن نطير حول "طاق كسرى" وهو على بضع كيلو مترات من بغداد ومن ذلك المطار، وكنت أقول في نفسي، جواباً على سؤال: ارجعنا إلى المطار! ولقد تجولت حول "طاق كسرى" وهو الطاق المشهور في تاريخ الدولة الفارسية وكبيرها كسرى وزيارة البحتري له ووصفه لما تبقى من أطلاله، تغالب الدهور وتقاوم الأعاصير وتظل راسخة على وجه الأرض يحج إليها الزوار. ثم عدت وهبطنا إلى حيث كنا وكانت الطائرات الأخرى تقوم متفرقة بمثل تلك الجولات في أماكن مختلفة من أجواء عاصمة الرشيد.
بتمام زيارتنا لمطار الرشيد وركوبنا لذلك السرب من الطائرات، وكان الجميع يركبونها لأول مرة في حياتهم كما قلنا، عاد كوكبنا إلى محل إقامتنا ونحن في زهو كبير لما سمعنا ورأينا، أتذكر تلك الأيام بسذاجة، فقد كنا نعتقد أن هذا السرب ولا سرب عربي عسكري يومئذ غيره لأي قطر من أقطارنا العربية، سيحول دون تحقيق وعد بلفور بإنشاء الوطن الصهيوني في قلب العالم العربي وعلى أرض فلسطين، ومنذ ذلك الحين وله حوالي نصف قرن من الزمن تم أثناءها تحقيق وعد بلفور، وقام الوطن الصهيوني وتعقدت الأمور وكثرت الأساطيل الجوية ولا نزال ننتظر النصر الذي وعد الله به المجاهدين لو أنهم جاهدوا.
وفي أثناء مقام بعثة العروة الوثقى ببغداد أقامت أمانة العاصمة حفل تكريم لأفرادها، اكتظ بعشرات من المنتمين إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن أساتذة المدارس والكليات والمعاهد وأعضاء نادي "المثنى" الشهير يومئذ بها، وبقينا بضع ساعات في بهو أمانة العاصمة هذه، في جو عربي زاخر بالأحاسيس الوطنية، وفي هذا الحفل بالذات لا يفوتني أن أذكر كيف التقيت بالأستاذ يونس بحري الملقب يومئذ "بالسائح العراقي" والصحفي والمغامر، الذي كان يملأ النوادي ضجيجاً وصخباً والذي زار قبل ذلك المملكة، وأقام بالرياض ثم بمكة ثم بجدة، وقام بعد ذلك بعدد من الرحلات إلى الشرق والغرب، وكانت له مغامرة أشاعها عن نفسه يوم كان بالرياض، وبأنه ينوي اختراق الربع الخالي من غربه إلى شرقه منافساً بذلك "بروترام طومس" و "عبد الله فيلبي" فيما بعد ذلك، وربما تجيء في أحاديثي أخبار ذلك الرجل وأخبار مغامراته وحياته الصحفية في باريس عندما كان يصدر منها جريدة "العرب"، وصداقتي له، على أنه في ذلك اليوم الذي التقينا فيه في بهو وحفلة أمانة العاصمة ببغداد قد غادرها في اليوم الثاني أو الثالث، ومن هناك فرّ إلى تركيا ومنها إلى "برلين"، وقد أعانه الوزير الألماني بالعراق يومئذ الهر الدكتور "قروبا" على أن يعمل مذيعاً في إذاعة برلين، في القسم العربي الذي أنشىء قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأخباره في هذا المجال لا تعد ولا تحصى
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2565  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 46 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.