شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر))
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أيها السيدات والسادة، صاحب الاثنينية الشيخ الوجيه المثقف عبد المقصود محمد سعيد خوجه، راعي الحفل معالي الأخ الوزير والمثقف أيضاً مدني علاقي، إخواني وأخواتي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية وسلام وشكر للاثنينية وصاحبها وتهنئة بتكريمه في معرض الرياض الدولي للكتاب لهذه السنة، فإن تكريمه هو تكريم للاثنينية واعتراف بريادتها ودورها في الحراك الاجتماعي والثقافي والمعرفي في المجتمع السعودي.
أبدأ هذا الحديث غير المكتوب على غير ما اعتاد المكرّمون البداية به، عادة يبدؤون من الماضي وصولاً إلى الحاضر، لكني سأبدأ بالحاضر ثم أذهب إلى الماضي إذا ما رأيتم ذلك. لن أتحدث عن نفسي في هذه الليلة الكريمة والأمسية الرائقة، ولن أتحدث عن شخصي المتواضع، لأن سيرتي الذاتية لا تحمل ما يمكن أن يكون مفيداً أو دليلاً للآخرين، لكني سأقف عوضاً عن ذلك عند بعض محطات العلم في حياتي، ذلك أني أزعم أن ما يتوجب ذكره في هذه اللقاءات هو أن نلقي نظرة فاحصة راصدة لقضايانا العلمية في حياتنا المعاصرة، وسأقف وقفات قصيرات عند عشر من المحطات العلمية في حياتي.
المحطة الأولى: وهي تتعلق بالمؤرخ وعمل المؤرخ، وربما أسترسل قليلاً وأتحدث عن أهمية علم التاريخ في وقتنا الحاضر. الواقع أن عمل المؤرخ كما تعرفون جميعاً هو عمل شاق وبسيط، هناك من ينظر إلى علم التاريخ وإلى التاريخ بأنه من أسهل العلوم وهو عبارة عن قصة ربما قد تكون مسلية وفيها من الحكايات وهذا الأمر متوقع وقد يكون.. حتى أنت لو نظرت إلى اسم "التاريخ" في اللغات الأجنبية تجد أن ترجمته -لو أردنا الترجمة الحرفية- هي "القصة العالية" أو "القصة الرفيعة"، ومنهم من يرى التاريخ علماً صعباً وشاقاً ومضنياً، ويحتاج إلى أدوات قد لا تتوفر إلا للقليل، لهذا نجد أن العلماء يقسمون المؤرخين إلى قسمين: قسم يقال له "إخباري" وقسم يقال له "مؤرخ". والفرق بين الاثنين واضح جداً، لكن العجيب في الأمر أن أكثر المؤرخين تأثيراً في العالم منذ بداية عصر النهضة الأوروبية حتى الوقت الحاضر هم أولئك الذين يطلق عليهم "إخباريون"، الإخباري هو الرجل الذي لم يكن متخصصاً بالتاريخ وإنما شغفه العلم وأخذه التاريخ وحب التاريخ وبدأ يسجل ويدوّن ثم سلّم ما دُوِّن وسُجِّل إلى من يأتي من بعده من المؤرخين الذين درسوا التاريخ دراسة منهجية.
التاريخ تتنازعه الآن مدارس كثيرة، ومن الصعب جداً أن أسترسل في هذه الأمسية في مدارس التاريخ لكنني أقول إن التاريخ الذي بين أيدينا اليوم تتوزعه المدرسة الألمانية والمدرسة الفرنسية ثم المدرسة الأمريكية. قد يسأل سائل أو تسأل سائلة ماذا عن التاريخ العربي والإسلامي؟ أقول إن البحوث الحديثة في الدراسات العربية والإسلامية تتوزع هي أيضاً على هذه المدارس، ذلك أن المدرسة العربية إن جاز لنا التعبير أو إن جاز أن نقول أن هناك مدرسة عربية، قد ماتت بوفاة المؤرخين العظام -المؤرخين المسلمين- الذين سجلوا التاريخ العربي والإسلامي منذ البداية، أما ما كان في التاريخ في المجتمع السعودي فالحديث ذو شجون، لأن التاريخ الآن يشهد انحساراً كبيراً ليس في المملكة العربية السعودية فحسب لكن في معظم البلاد التي يطلق عليها تسمية البلاد النامية أو العالم الثالث، وحتى أعطيكم صورة مبسطة لواقع التاريخ أقول لكم عن إطلاعٍ ومعرفة إن أكثر أقسام التاريخ الآن موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، تحديداً في الجامعات الأمريكية.. لقد حاضرت في عدد من الجامعات الأمريكية ووجدت أن هناك قسمين كبيرين في أغلب الجامعات الكبرى وهو قسم الرياضيات وقسم التاريخ، بينما يُحارب التاريخ في العالم الثالث على المستوى الرسمي، لأنه علم لا يؤدي إلى مخرجات العمل، وهنا أرى أن ربط العلم بالمخرجات هو الطامة الكبرى التي أثرت على كثير من التخصصات الإنسانية والاجتماعية، والواجب أن يكون العلم للعلم وألا يُربط بسوق العمل؛ ذلك أن كثيراً من الذين درسوا التاريخ في الغرب قد اشتغلوا في عدد كبير من الأعمال في عدد كبير من الشركات بعيداً جداً عن التخصص، لكنني أقول لكم الآن إن الأقسام العلمية التاريخية تقفل الواحد بعد الآخر في عدد كبير من دول العالم الثالث، وفي بلادنا العزيزة أيضاً، لا أقول هذا تعصباً للتخصص إنما هذا هو الواقع الآن. أنا مع ترشيد التخصص أينما كان، أنا مع أن تكون التخصصات في سياق معرفي وسياق منهجي مع المنظومة العملية، أنا مع أن يخدم التخصص توجهات التنمية لكنني لا أقفل التخصص بمجرد أنه لا ينتمي إلى سوق العمل المعاصر، وهذه النقطة لن أتوسع فيها كثيراً غير أنني سأضرب لكم مثالاً واحداً لأُريكم ماذا حدث مثلاً في دولة عظمى مثل المملكة المتحدة (بريطانيا)؛ ففي عهد وزارة "مارجريت تاتشر" رأت السيدة الحديدية أن الدراسات الإنسانية وعلى وجه الخصوص دراسات التاريخ يجب أن تقلَّص الميزانيات التي تُدفع لها من قبل الدولة، فأصدرت أوامرها وهي سيدة ورئيسة وزراء ولديها قدرة على اتخاذ القرار دون الرجوع إلى الجامعات ومراكز البحوث في بريطانيا، فماذا حدث بعد سبع سنوات من قرار السيدة "مارجريت تاتشر"؟ استوردت بريطانيا مدرسين للتاريخ من ألمانيا -من العدوة التاريخية لهم- ثم ضجت بريطانيا عن بكرة أبيها، ماذا يحدث؟! بدل أن نصدر مدرسي التاريخ إلى العالم أصبحنا نستورد مدرسي التاريخ؟ إلى أن أعادت حكومة "جون ميجر" وحكومة "توني بلير" الوضع إلى سابق عهده وأعادت الموازنات المالية التي ترصدها الحكومة للتخصصات الإنسانية. هذا مثال واحد في بلد عظيم كبير من الدول التي توصف بأنها من الدول الكبرى.
إن مكانة التاريخ في المجتمع السعودي تنقسم إلى قسمين: قسم شعبي، وقسم رسمي. دعونا نبدأ بالقسم الرسمي؛ في بداية النهضة السعودية فُتحت أقسام كثيرة للتاريخ، وهذا في الحقيقة كان خطأ لكن الخطأ لا يعالج بخطأ.. فلا نكاد نجد جامعة أو فرعاً لجامعة إلا ونجد قسماً للتاريخ وبالتالي نجد ثلاثة أقسام للتاريخ في مدينة واحدة، أو قسمين للتاريخ في مدينة واحدة؛ في مدينة أبها مثلاً كان هناك قسمان للتاريخ: قسم يتبع لجامعة "الملك سعود" وقسم يتبع لجامعة "الإمام" كذلك في القصيم، في الأحساء ثلاثة أقسام، في المدينة ثلاثة أقسام، في مكة وجدة والطائف أربعة أقسام.. هذا خطأ، لا نقول إنه صحيح، إلاّ أن الخطأ لا يُعالج بخطأ؛ إذ أصدر مدير جامعة الملك خالد قراراً بإقفال قسم التاريخ، وطبعاً لم يكن المؤرخون الذين ابتعثوا من قِبَل جامعة الملك "سعود" فرع أبها أو الذين حصلوا على درجة الدكتوراه في المملكة العربية السعودية سعيدين بهذا القرار، فرفعوا المطالب وكان مما رفعوه وأحرجني أني كتبت مقالين في جريدة الرياض كان عنوان أحدهما "أزمة تاريخ"، حدثت فيه القوم بأن هذا ليس حلاً وحدثتهم عن تجارب الأمم، وقلت لهم إن التاريخ علم لا يجب أن ينظر إليه هذه النظرة؛ نعم رشِّد، نعم حدِّد، وزّع توزيعاً منطقياً لكن لا تقفل قفلاً يؤثر على حملة المتخصصين للدكتوراه أو الماجستير في هذا البلد أو في هذه المدينة. أُخذت هذه المقالات وأُرفِقت بمطالبات.. وفي ليلة من الليالي اتصل بي مسؤول كبير في وزارة التعليم العالي يقول لي أريد أن أراك، فذهبت إليه عند الصباح وقلت له: خير إن شاء الله، قال: إن الناس يستعملون مقالاتك للدفاع عن التاريخ، وأنا أعرف أنك من الذين يرون أنه يجب عدم الإفراط في افتتاح أقسام التاريخ، قلت: هذا صحيح، أنا أقول بالترشيد وبالعكس كلما كانت الأقسام قليلة كلما وصل العلم إلى درجات عالية من التطور، وفي النهاية وعلى الرغم من كثرة الأقسام التي أقفلت فإنه لا تزال هناك أقسام كثيرة في المملكة العربية السعودية.
أما من يتولى التاريخ الشعبي من الهواة وغير المتخصصين فهم الذين يقودون الآن العملية التاريخية في المملكة العربية السعودية. للأسف الشديد لا أقول هذا انتقاصاً لدور هؤلاء الروّاد غير المتخصصين، لكني أقول مثلما تفضل صاحب الاثنينية منذ لحظة بأن التاريخ يحتاج إلى نظر وإلى دقة وإلى فحص وإلى لغات وإلى تخصصات رديفة للمؤرخ.. إن هؤلاء لا تتوفر لديهم مثل هذه الأشياء وبالتالي أصبحنا الآن نعيش في دوامة مما تنتجه مطابع ويقال لها كتب تاريخية، أعان الله المؤرخ المحترف.. المؤرخ المتخصص.
مصادر التاريخ السعودي كثيرة وكنا في بداية النهضة نعتمد على المصادر المدونة، أما الآن ولله الحمد، وبعد التوسع العلمي وتوفر مراكز بحوث ومعاهد متخصصة، فقد أصبحت لدينا مصادر كثيرة من السهل الاعتماد عليها، تتوزع على ما هو مدوّن، وعلى التاريخ الشفاهي والوثائق التي بدأت دارة الملك عبد العزيز ومكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض وغيرهما من المراكز العلمية في حفظها والسعي إليها، وقد كان لي مع بعض الإخوة شرف تأسيس وحدة التاريخ الشفاهي في دارة الملك عبد العزيز، والآن لدينا عشرة آلاف ساعة مسجلة من التاريخ الشفاهي وهي الآن محفوظة في أرشيف الدارة وجاهزة لمن يريد أن يعيد النظر في التاريخ المدون للمملكة العربية السعودية بناءً على الروايات الشفاهية التي لم تُسجل من قبل.
المصدر الثالث: هي الوثائق، أنا لي تجربة وأنتم لكم أيضاً تجارب كثيرة في الوثائق التاريخية ولم يكن في المملكة وثائق تحت أيدينا إلا منذ عشر سنوات فقط.. الآن حركة البحث عن الوثائق والأوراق القديمة حركة دؤوبة جداً وقد توفرت لدارة الملك عبد العزيز وللجامعات ولمكتبة الملك فهد الوطنية وغيرهم عشرات بل مئات بل آلاف من الوثائق الشخصية والوثائق العامة التي تبرع بها أصحابها أو باعوها إلى هذه المراكز وحُفِظت بطريقة جيدة، وهي تقف الآن جنباً إلى جنب مع الوثائق الأجنبية التي يعتمد عليها أبناء جيلي والجيل السابق، أما الآن فلي مصدر آخر من وثائق يمكن له أن يساعد على الأقل الوثائق البريطانية والفرنسية والهولندية والإسبانية والبرتغالية والعثمانية والإيرانية واليمنية والهندية وغيرها.
خطر ببالي سؤال أود أن أسأله: هل بإمكان المتخصص في التاريخ الإسلامي المعاصر الإتيان بشيء جديد؟ في الحقيقة هذا سؤال وُجِّه إليّ كثيراً؛ وأقول بصراحة إن معظم مصادر التاريخ الإسلامي قد شوِّه إلى درجة كبيرة جداً، وبالتالي ليس لدى المؤرخ الآن أن يحقق مخطوطة أو ينشر شيئاً جديداً، اللهم إلا في إطار ما يسمى بإعادة كتابة التاريخ وأنا في الحقيقة لا أذهب ولا أؤيد هذه التسمية. ما هو المقصود بإعادة كتابة التاريخ؟ أنا أقول إنه من السهل أن تُقال هذه الكلمة لكن ما معنى أن نعيد التاريخ؟ التاريخ لا يعاد ولا تعاد كتابته إنما يعاد تفسيره ويعاد النظر إليه من جهات مختلفة ومن منظور مختلف، خصوصاً وأن المؤرخ الحديث مطلوب منه الآن أن يدرس لغات مختلفة وبالتالي من السهل جداً أن يبحث في هذه اللغات عن الموضوع الذي بين يديه، وهذا ما أنتج ما يسمى "بنقد الدراسات التاريخية المعاصرة" وهو ما نقوم به الآن في أقسام التاريخ.. نحن نقوم الآن مثلاً بالإشراف على الدراسات العليا، وهناك رسائل كثيرة، فنشترط وهذا هو المعقول -بأن يدرس الطالب أو الطالبة موضوعاً لا أقول غير مطروق، لكن لا بد أن يتوفر فيه عنصران: الأصالة والابتكار. والأصالة والابتكار لا يعنيان أن تأتي بشيء من العدم، بل أن تنظر إلى موضوعك نظرة جديدة لم يسبقك إليها أحد.
لقد اشتغلت بهذا العلم الواسع منذ أن تخرجت من الجامعة وحتى اليوم، وعندما عدت عام 1950م بدأت أُدرّس، وقد أصبت في الواقع بخيبة أمل كبيرة إذ وجدت التدريس في الأقسام العلمية -أو على الأقل في القسم الذي أدرّس فيه- وقد غلبت عليه المحافظة والركود، ولهذا فكرنا أن نُحيي مواتاً. ما هو هذا الموات؟ قبل أن آتي كان هناك ما يسمى "الجمعية التاريخية السعودية"، لكنها نضبت.. انتهت.. فاجتمعت مع ثلة من المؤرخين في جامعة "الملك سعود"، وتقدمنا بطلب إحياء ما كان سابقاً وليس تأسيس جمعية جديدة، وتأسست الجمعية التاريخية السعودية، وهنا سوف أذيع لكم سراً أعرف أن صاحب الاثنينية قد لا يفضل كشفه: لقد توليت رئاسة الجمعية في ما بعد لمدة من الزمن، وكانت الجامعة تخصص مئتين وأربعين ألف ريال للجمعيات العلمية، لكن ران علينا الزمن ونضب هذا المال ولم تستلم أي جمعية علمية في ذلك الوقت ريالاً واحداً من الجامعة، وأصبحت الجمعيات العلمية أسيرة حظوظها؛ فجمعية الصيدلة وجمعية طب العيون، وجمعية الكيمياء، وجمعية الجيولوجيا، كلها في السوق والشركات تدعمها، إنما جمعية التاريخ السعودية من الذي سيدعمها؟ لا لنا في العير ولا في النفير، ويُنظر للتاريخ نظرة دونية كما قلت منذ لحظة، ففكرت أن أخاطب بعض رجال الخير المثقفين، لكني توجست خيفة من ألاّ يساعدوا الجمعية، ولذلك رأيت أن أكتب ثلاث رسائل فحسب لأرى ردود الفعل، فاخترت الوجيه المثقف الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه، واخترت الدكتور عبد العزيز الخويطر وهو مؤرخ، واخترت الشيخ عبد الله الحقيل مدير مجلس البنك البريطاني السعودي (رحمة الله عليه)، وأرسلت رسائل أردت بها أن أجس النبض، لأنني أعرف بأن هذا مؤرخ وذاك رجل أعمال ناجح ومُحب للثقافة أيضاً إلا أن كلهم ما يعرفونني معرفة شخصية، وإذا بي أُفاجأ بأن الشيخ عبد المقصود يرسل شيكاً بـ 15 ألفاً للجمعية التاريخية السعودية، وهو أول تبرع تحصل عليه الجمعية.. كيف أقول، رجل بعيد عن التاريخ، الاثنينية بعيدة عن التاريخ، الجامعة بعيدة عن جدة، لا يعرفني، لكن انظروا يرعاكم الله كيف أن الأعمال الخيرية وكيف أن الثقافة والعلم والفكر تؤثر في الرجل من بعيد، وتدفعه إلى أن يتبرع لجمعية شبه وليدة وغير معروفة في السوق، وليس لها مطبوعات، وليس لها إنتاج، وليست لها محاضرات أو ندوات أو لقاءات، فيدعم الجمعية.. يدعم الجمعية بمبلغ هو الأعلى في تاريخ الجمعية في ذلك الوقت، بل أقول بصريح العبارة بل هو الأعلى إلى يومنا هذا من الشخصيات المعتبرة.
المحطة الثانية: دراسة التاريخ في أمريكا، لماذا وكيف؟ عندما صدر قرار ابتعاثي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراستي كانت أمامي عدة خيارات: أن أذهب إلى فرنسا، أو بريطانيا، أو ألمانيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية. لقد اخترت في البداية فرنسا بعدما بدأت أدرس اللغة الفرنسية وأحضر وأراسل، وقد جاءني القبول من جامعة "السوربون" كما جاءني قبول من جامعة "باريس الأولى".. عندئذٍ حضرت محاضرة في جامعة "الملك سعود" ألقاها رجل عربي مقيم في الولايات المتحدة وهو أستاذ جامعة "هارفارد" يقال له الدكتور مهدي جلال، فسلمت عليه بعد المحاضرة وقلت له: أنا أرغب أن أدرس التاريخ في "هارفارد". فقال: يا بني، القبول في هارفارد صعب.. وقال كلاماً جميلاً عن الدراسة... قلت: ما معنى هذا الكلام؟ قال: يعني أنت عندما تُقبل في "هارفارد" سوف ترى أن "هارفارد" مثلها مثل أي جامعة أخرى، لكن القبول صعب لأنها جامعة للنخبة، فأنا سأدعمك لكني لا أعرفك وقد تعذرني، إلاّ أنني سأدلك على طريق سهل جداً تحصل من خلاله على القبول من "هارفارد". فقلت: ما هو؟ قال: اذهب إلى الشيخ أحمد زكي يماني -وكان آنذاك وزيراً للبترول والثروة المعدنية- وخذ منه توصية وأنا واثق من أنهم سوف يقبلونك، لأنه شخصية معتبرة وخريج "هارفارد" ومعروف، وقد تبرع بمال وأُنشئ له كرسي أو مركز ولا يزال. ولقد زرت المركز في ما بعد، وحاولت أن أدخل على مدير المكتب ومعي خطاب إلاّ أنني فشلت في الوصول إلى الشيخ أحمد زكي يماني -متعه الله بالصحة وأطال عمره- ولذلك لم أحصل على قبول من "هارفارد"، فقيل لي: إذاً الخيار الثاني هو جامعة "كاليفورنيا" بلوس أنجلوس. لم أكن في الحقيقة أجيد اللغة وليس لي معرفة، ولكن ماذا فعلت؟ أرسلت عشرة خطابات لأشهر عشر جامعات أمريكية بما فيهم "هارفارد" وقلت أنتظر نصيبي، فوافقت ثلاث جامعات.... وجامعة "بيركلي" و "استارفورد". وبعد مشاورات مع زملائنا وأساتذتنا في القسم نصحوني بالذهاب إلى كاليفورنيا، وهنا لا أنسى السؤال الذي سألني إياه معالي الدكتور منصور التركي مدير الجامعة، وهو يودعنا بعد أن يسأل كلاً منا: ما هو تخصصك؟ فيزياء.. رياضيات.. كيمياء.. أحياء.. اجتماع.. طرق تدريس.. تربية؟ فلما جاء دوري قلت له: أنا تاريخ، قال: يا بني، تدرس التاريخ في أمريكا؟ ادرس عندنا هنا. فكيف لي أن أرد على مدير جامعة في قامة معالي الدكتور منصور التركي، الذي يعدّ رجلاً إدارياً ناجحاً وقد دفع الجامعة دفعات قوية، فقلت: يا معالي الدكتور إن القسم هو الذي ابتعثني.. إذا كانت هناك وجهة نظر فالأمر راجع للقسم. قال: يا بني، ادرس هنا أو في مصر.. المهم أن سؤاله أصبح يرن في أذني حتى بعد أن أمضيت سنتين في أمريكا، وقد عرفت الآن أنني محق في الذهاب إلى أمريكا لأدرس التاريخ؛ لأن القضية ليست قضية العلم، فالعلم الآن متوفر، والبعثات متوفرة.. أنا عندما كنت في أمريكا كان عدد الطلاب السعوديين 15 ألفاً، كان عدد طلاب كوريا الجنوبية 60 ألفاً في أمريكا.. الغريب في الأمر أنه بعدما تحسنت لغتي وعرفت أسرار البعثات وأهمية البعثة بصرف النظر عن التخصص، وجدت حوالي 2500 مبتعث أمريكي في الجامعات الأوروبية.. القضية ليست قضية أن تذهب للتعلم.. القضية أن البعثة في حد ذاتها أمر آخر يطول شرحه وقد يخرج عن هذه الأمسية.
بعض المواقف العلمية في الجامعات الأمريكية.. سوف أروي لكم موقفاً واحداً إذ لا أحب أن أطيل في هذه الليلة: لقد كان من ضمن النظام الذي عليه الجامعة التي درست فيها أن هناك تخصصاً رئيساً وثلاثة تخصصات فرعية، وأنه لا بد من أن أتعلم أربع لغات: لغتين شرقيتين ولغتين غربيتين. فحسبوا لي اللغة العربية ثم اخترت الفارسية، كما حسبوا لي اللغة الإنجليزية ثم اخترت اللغة الفرنسية، وشرعت أدرس اللغتين الفرنسية والفارسية، وكان الاختبار يسمونه لغة بحث، يعني ليس المطلوب منك أن تتحدث أو تكتب أو تجيدها، المهم فقط أن تقرأ في الكتاب وتفهم، وهذا سهل. كان الامتحان سهلاً جداً والحمد لله أنني وفقت، إذ تغير النظام بعد أن نجحت في اللغتين وأصبح الاختبار على طريقة "توفل"، ويقصد بـ "توفل" أن تجيد شيئاً من القواعد وشيئاً من أساليب اللغة. هذا الأمر حقيقة أزعجني كثيراً وقررت بيني وبين نفسي أن أرجع، فهل أتيت لأدرس التاريخ أم لأدرس اللغات؟ ورفعت السماعة وخابرت الملحق الثقافي في "هيوستن" وحدثته فانزعج كثيراً وأحالني إلى مرشد أو مستشار عندهم في الولايات المتحدة الأمريكية، لا أنسى اسمه.. اسمه بيكر، فقلت له: القصة كذا وأنا في الحقيقة مطلوب مني دراسة اللغتين الفرنسية والفارسية والآن اللغة الإنجليزية وأنا أصارع. قال: غير معقول؟ قلت له: هذا هو الأمر. وعندما قال غير معقول أعطاني الأمل أن هناك خطأ وأنه سيصححه ويتوسط عند الجامعة أو يبحث.. قال: دعني.. المهم أنه بعد يومين اتصل بي قائلاً: يا أخ عبد الله، هذه الجامعة ومعظم الجامعات تعتمد هذا النظام وتخصصك يجمع بين الغربي والشرقي وبالتالي لا بد من أن تغطي تخصصات فرعية وإلى آخره.. فأدخلني في موال أعرفه جيداً وبالتالي يئست وفكرت في العودة، وبالفعل أتيت الرياض لزيارة أهلي وحدّثت بعض إخواني بالموضوع، فقالوا لي: عيب أن ترجع هكذا وأنت ذاهب والجامعة والأمل وكذا.. وكأنهم أصروا وضغطوا عليّ فرجعت على مضض وصممت أن أنهي هذا الموضوع وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى أنهيته ونجحت.. هذا موقف لا أنساه.
الآن ما هي المدرسة التاريخية التي أثرت فيّ كثيراً؟ إنها المدرسة الأمريكية التي درست فيها، لكن هذا لا يعني أنني لم أتأثر بالمدرسة الفرنسية والألمانية، وحتى بالمدرسة المصرية التقليدية. المدرسة الأمريكية تتميز بطغيان السياسة على المدرسة التاريخية وبالتالي لا يوجد مؤرخ مثلاً بصرف النظر عن نوع التخصص إلا ويطلبون منه تخصصاً فرعياً وبالتالي ينصحونه إما بدخول الاقتصاد أو بدخول السياسة؛ فالمدرسة التاريخية في أمريكا مدرسة حديثة، أما المدرسة الأوروبية القديمة فهي مدرسة استشراقية، مدرسة استعراض، بمعنى أننا لو أخذنا التاريخ العربي مثلاً تجد أن كبار المؤرخين الأوروبيين يجيدون اللغة العربية ويدرسون الآثار ويدرسون المخطوطات ويدرّسون، وتجد الأستاذ الواحد يشرف على الأدب العربي ويشرف على التاريخ الإسلامي ويشرف على التاريخ القديم ويشرف على تاريخ سعودي معاصر أو حديث، هذه مدرسة.. إن مدرسة العلوم المتعددة هذه لا تراها في أمريكا.. فالمدرسة الأمريكية ترى أن على الطالب أن يتخصص في التاريخ كتخصص دقيق، وحتى الدقيق يختارون له مشرفاً في تخصص دقيق، مثلاً لا يمكن لأستاذ متخصص في التاريخ القديم أن يشرف على التاريخ الإسلامي أو التاريخ الإسلامي يشرف على التاريخ الحديث، بينما هو المستعرب والمستشرق البريطاني المشهور الذي ألف كتباً كثيرة قد أشرف على طلاب عرب كثيرين وطلاب العالم الثالث درسوا التاريخ الإسلامي والتاريخ القديم والتاريخ الحديث واجتماع وحضارة وإلى آخره. هذه المدرسة الأوروبية قد بدأت تتلاشى الآن لأن الموجة الأمريكية طاغية وهي التي صبغت الآن معظم الجامعات الحديثة بما فيها جامعة "الملك سعود"، التي تتبنى في نظام الدراسات العليا في التاريخ وفي غيره المدرسة الأمريكية.
الثانية أن المدرسة التاريخية في أمريكا منفصلة عن القسم الأدبي، وهذا ما أزعجني كثيراً. أنا أعتبر أن اللغة مهمة جداً يا إخوان، وهذا ليس تعصباً للغة العربية بل إن اللغات الأجنبية أيضاً مهمة للمؤرخ، وأنا أظن وأحسب وأزعم أن المؤرخ في تخصصه أو في تخصصات أخرى ما لم يُجيد لغته التي يتحدث بها فإنه يعاني نقصاً. في الولايات المتحدة الأمريكية هنالك انفصال تام بين القسم الأدبي والتاريخ، أعطي مثالاً: لو أخذت مثلاً أي كتاب من الكتب التاريخية في التراث الإسلامي وقرأته، فإنك تجد -حتى ولو لم تخرج بحصيلة تاريخية أو حتى لو لم تكن تحب التاريخ- فإنك تجد لغة.. تجد أدباً.. تجد شعراً.. يعني أنك تجد بدلاً.. لكن في الولايات المتحدة في أمريكا لا يريدون هذا، يريدون فقط أن يكون التاريخ علماً بحتاً مثل بقية العلوم البحتة، وبالتالي يُكتب بلغة علمية صارمة ودقيقة ليس فيها من حسنات ولمسات الأديب شيئاً.. هذا ما أزعجني كثيراً لكني فرحت به من وجه آخر، لماذا؟ لأن اللغة الإنجليزية التي سوف أكتب بها رسالتي لن تكون لغة أدبية لأني لا أجيد اللغة الإنجليزية بما فيه الكفاية.
أيضاً من مميزات المدرسة التاريخية الأمريكية التي درست عليها أنها تُغَلّب المنهج الكمي على المنهج الكيفي، وهذا ربما يصلح في الدراسات الاقتصادية وحتى في التاريخ المعاصر لكن كيف يمكن أن أطبق المنهج الكيفي على التاريخ الإسلامي مثلاً؟ لقد تعبنا جداً وقرأنا وإلى آخره، صحيح أنا أحمد لهذا الزمن الجميل أني درست هذا المنهج لكنني لما عدت وأردت أن أدرّس تلاميذي في جامعة "الملك سعود" المنهج الكمي ليطبقونه في دراساتهم وجدت معارضة شديدة لأنهم لا يجيدون الإحصاء، ولا يجيدون استخدام الحاسوب ولا يجيدون الأرقام.. لا يعرفون في التاريخ والأرقام إلا السنوات فقط، أما ما بعد ذلك فليس لغتهم، لغة الأرقام ليست لغتهم، ووجدت أنهم لا يزالون على الطريقة القديمة حتى يومنا هذا، لهذا رأيت أن أكتب بحثاً علمياً وأنشره حتى يحرك المياه الراكدة، فكتبت بحثاً عن التاريخ الكمي وتطبيقاته في التاريخ الإسلامي، ونُشر في دورية معروفة.
أختم هذه المحطة بحديث بسيط عن المدرسة الألمانية لأنها في الحقيقة هي التي انتقلت إلى المشرق منذ زمن وتأثرت بها المدرسة العراقية التي يمثلها جواد العلي في تاريخ البصرة وفي تاريخ العرب. وهو سفر كبير. إن المدرسة الألمانية من أدق المدارس التاريخية وهي مدرسة لا زالت موجودة لكنها ماتت في مشرقنا وفي مغربنا العربي بسبب طغيان الثقافة الأمريكية وأثر المدرسة الأمريكية، فماذا يميز المدرسة الألمانية في التاريخ؟ يميزها أنها تولي الجانب التاريخي الدقيق أهمية شديدة إلى درجة أن طالب التاريخ في ألمانيا إذا ما تخرّج مؤرخاً فإنه يُعد من زمرة الفلاسفة، أما في الولايات المتحدة فقد تُمنح درجة الفلسفة في التاريخ أو درجة الفلسفة في أي علم آخر للمتخرج إلاّ أنه لا يعد في صف الفلاسفة. إن المدرسة الألمانية انتقلت إلى المشرق وتبنتها المدرسة العراقية مبكرة في بداية القرن العشرين، لكنها زالت الآن مع شيوع الثقافة الأمريكية المنتشرة في العالم.
المحطة الثالثة: ولعلني أختصر.. لنقفز إلى المحطة الثالثة فأقول: هي تتحدث عن الفرق بين المؤرخ والإخباري وكيف أن جامعاتنا للأسف الشديد لا تزال تخرج إلى حد ما إخباريين بمحافظة وطريقة البحث، ولا تُخَرِّج المؤرخ الحديث الذي تخرّجه الجامعات في الغرب. إن المحافظة هذه هي في الحقيقة بلاء، لأنها مدرسة ترى أن القديم قديم ولا يجب المساس به خصوصاً التاريخ الإسلامي. أنتم تعرفون أن التاريخ الإسلامي في بدايته قد نشأ في أحضان العلم الحديث، وأول من فصل تاريخ السيرة النبوية على سبيل المثال عن أحوال الحديث هو ابن إسحاق، لكن ابن إسحاق واجه هجوماً في القرن الثاني الهجري من قِبَل المحدثين وأهل الرأي لأنه أدخل في السيرة أشعاراً وروايات من أهل الكتاب وتوسع و.. وإلى آخره.. وترك العنعنة والإسناد وإلى آخره. يعني منذ ذلك الوقت وحتى اليوم فإن التقدم حسبما يتراءى لي لم يكن كبيراً في المدرسة التاريخية العربية والإسلامية، بل لا زال محافظاً، وسأعطيكم مثالاً: عندما كتبت كتاباً عن تاريخ الإمام في صدر الإسلام وأردت أن أنشره، فضلت أن أنشره باللغة الإنجليزية، وقد نُشر بالتعاون بين دارة الملك عبد العزيز ودار نشر في بريطانيا اسمها "إيفكا". هذا الكتاب يتحدث عن نظرية إقليمية ورأيت أن أختبر هذه النظرية ومدى إمكانية تطبيقها في صدر الإسلام في الجزيرة العربية، فوجدت أن هناك أربعة أقاليم على الأقل، أو ثلاثة أقاليم متميزة: الحجاز واليمن وعُمان. الغريب في الأمر أن هذه الأقاليم لا تزال تشكل دولاً سياسية منفصلة. هذه الإقليمية طبقتها أنا على الإمامة ورأيت أنها مناسبة فطبعت الكتاب ونشرت منه بعض المقالات لأرى ردود الفعل، فوجدت رد فعل عنيف جداً لا يتحمله شخصي الضعيف، لم يقتصر على المؤرخين فحسب، بل شمل السياسيين ورجال الدين؛ ولذلك رأيت أنه من الأفضل أن أنشر الكتاب باللغة الإنجليزية ونُشر، وانتشر ولقي قبولاً حسناً ولله الحمد. لكنني قبل هذا رأيت أيضاً أن أختبر البارومتر عن المحيط التاريخي السعودي، فأردت أن أكتب بحثاً عن قرآن مسيلمة؛ فمسيلمة الكذاب ادعى أنه نزل عليه القرآن، وقد انتشر هذا الكلام في صدر الإسلام وله نقولات كثيرة في كتب تاريخية وأدبية وفقهية وإلى آخره، فأرسلت البحث إلى مجلة سعودية تطبع في قبرص والقائمون عليها من المؤرخين السعوديين، فأرسلوا بدورهم البحث إلى أستاذ مصري في جامعة "الإمام محمد الإسلامية" ليُحكِّمه من ضمن المحكِّمين، فاعترض اعتراضاً شديداً حتى على العنوان لأنه رأى أن كلمة "قرآن" هي مخصوصة تماماً للقرآن الكريم، فقيل له إنه يتحدث عن قرآن قديم يدّعي صاحبه أنه نزل عليه وهو موجود في الطبري، وموجود في ابن كثير، وموجود عند ابن مسعود، وموجود عند أمهات المصادر التاريخية وتراجم الرجال موجودة في الطبقات فقال: أبداً عليه أن يغيّر العنوان، ويغيّر أيضاً في الموضوع، فنشرناه تحت عنوان "المدلول الأسطوري لدعوة مسيلمة الكذاب"، هذا البحث دوري أنني بحثت في جميع المصادر الإسلامية وكتب الأدب والمعاجم والشعر والفقه والتفسير والتراجم والطبقات.. إلى آخره، ثم كل قول يُنسب إلى مسيلمة آخذه، فوجدت عندي قسمين: قسم قيل إن مسيلمة قاله بنصه، وقسم قيل إن هذا معناه، فجمعت هذه الآيات أو هذه الأقوال وأردت أن أفسرها، فأرجعتها إلى مصادر أسطورية قديمة جداً في الجزيرة العربية، وهي مصادر وكلمات لا تليق بالعرب، حتى العرب.. كلمات لا تقنع مسيلمة الكذاب، نشأ في بني حنيفة وهم من أفصح العرب وشعراؤهم موجودون.. بلد الأعشى، صنّاجة العرب:
يا ضفدع يا ضُفيدع نقنقي ما تشائين
أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين
يعني هل هذا يجوز على المخيلة العربية في القرن السابع الهجري في الصدر الأول من العربية وأيام تسجيل اللغة العربية؟ على كل حال الموضوع طويل ولا أريد أن أشغلكم به.
من الأشياء التي أشغلتني أيضاً انزعاجي من مسمى "التاريخ الإسلامي"، لأني أرى أن العلوم لا يجب أن ترتبط بأديان، فلا يقال مثلاً التاريخ النصراني والتاريخ اليهودي والتاريخ الإسلامي، التاريخ علم مثل الطب والفلسفة والجغرافيا، يجب ألا يُنسب إلى دين. كنا في ندوة فاقترحت في ورقة عمل أن تُستخدم عبارة "تاريخ الشعوب الإسلامية"، بدل أن نقول التاريخ الإسلامي؛ لأن الإسلام أبلغ وأعظم وأكبر من أن نربطه أو نجعله صفة لتاريخ. هناك أخطاء، كتب فيها أخطاء كبيرة وفيها مشاكل، فلماذا نربطها بهذا الدين العظيم؟ دعونا كالشعوب الأخرى لا نسمي تاريخنا بديننا، بل نسمي "تاريخ الشعوب الإسلامية" وهذا أفضل. هذه إذاً ثلاثة أمثلة تدل على المحافظة؛ أي كيف أن المؤرخين في جزيرة العرب وفي المملكة العربية السعودية محافظون إلى درجة كبيرة.
المحطة الرابعة: مثلما تفضل أخي معالي الوزير فقد اشتغلت في هم الوطن.. لدي شعور وطني حساس وعالِ جداً، ولا بد من أن يعمل كلٌ في مجاله، لإحياء هذه الوطنية وربط الإنسان بهذه الأرض، وفي الأثر: دياركم.. دياركم تُكتب لكم آثاركم وإلى آخره، وللجاحظ كتاب جميل عن الحنين إلى الوطن وإلى آخره.. الوطنية ليست أغنية أو مناسبة فحسب، الوطنية هي أن يرتبط هذا الإنسان بهذه الأرض: الأرض الجميلة.. الأرض المقدسة.. ولذلك عملت الحكومة السعودية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واتهام المملكة اتهامات باطلة ومعاملتها على أنها دولة إرهابية وتصدع العلاقات السعودية -الأمريكية، عملت على رأب هذا الصدع، ومن ضمن هذه الطرق الجميلة أن المقام السامي كلف وزارة التعليم العالي بإرسال مجموعة من الأكاديميين إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء محاضرات في الجامعات الأمريكية، فتم اختياري لكي أكون مشرفاً على هذا البرنامج وقمنا بعمل جميل إذ راسلنا الجامعات نطلب منها إقامة يوم.. أسميناه يوماً بحثياً بين السعوديين والأمريكيين في الحرم الجامعي، يحاضر ثلاثة أو أربعة سعوديين ويحاضر ثلاثة أو أربعة أمريكيين، وقد تركنا حرية اختيار الأشخاص لجامعة مضيفة، أما التكاليف فتم الاتفاق على أن نتولى نحن تكاليف الأكاديميين السعوديين، ويتولون هم تكاليف المحاضرين الأمريكان لقد كانت في الحقيقة ضربة لازب أو ضربة معلم، إذ نجح البرنامج نجاحاً مذهلاً، واكتسبت معرفة كبيرة بالإضافة إلى معرفتي السابقة عندما كنت طالباً بل تفوقها. لقد حاضرنا في ثلاثة عشر حرماً جامعياً في جامعات مرموقة، ودخلنا الصفوف.. دخلنا الفصول.. أذكر كان من ضمن الاتفاقية أن على كل أستاذ أن يحاضر في تخصصه؛ ذهبت ودرست بدل أستاذ التاريخ، وأستاذ آخر في اللغة يدرس لغة، وآخر في الفيزياء.. وآخر في الكيمياء.. كان معنا سيدات ومعنا رجال والحقيقة أننا حركة حرّكنا المجتمع لأنكم تعرفون أن من ضمن اللوبي في أمريكا لوبي الجامعات، فالجامعة مصنع ومختبر للأفكار السياسية وتؤثر في السياسات الخارجية الأمريكية تأثيراً لا يمكن أن ينكره إنسان، هذه تجربة عشتها وأفكر في أن أكتب كتاباً عنها، وقد نشرت مقالات في عمودي في "الرياض" الذي يُنشر كل أربعاء عن بعض هذه القضايا، لكني أقول لكم بصراحة إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليست كلها شر؛ أولاً لأننا اكتشفنا بأن هناك خللاً في المنهج التاريخي الذي يعتمده السعوديون والعرب والمسلمون، وليس فقط، بل المناهج العلمية كلها، ولقد بدأت الجامعات ووزارات التربية والتعليم تصحح بعضاً من هذا الخلل، مثلاً وجدنا في بعض الأقسام العلمية أدلجة كبيرة وهذا لا يجوز.. إن العلم يبتعد كثيراً عن الأدلجة، لكننا وقفنا في الحقيقة موقفاً علمياً في وجه الهجمة الأمريكية والغربية من خلال أعمال كثيرة؛ أولاً إلقاء محاضرات، والدخول إلى الصفوف وكتابة المقالات، نشر المقالات باللغتين العربية والإنجليزية، كل حسب قدرته، والإخوان والأخوات الذين شاركونا في هذه المهمة قد أبلوا بلاءً حسناً وأثبتوا أنهم وطنيون، وأنا أشكرهم من هذا المنبر.
ومن المواقف الطريفة أذكر لكم موقفاً واجهته إثر سؤال غير متوقع وُجِّه إلي: كنت أحاضر في جمع ثم قامت امرأة أمريكية وسألتني سؤالاً محرجاً فقالت: لماذا تمنع السعودية المرأة من قيادة السيارة؟ لا أستطيع أن أقول ليس صحيحاً فالعالم قرية، ولا توجد أسرار، وبالتالي لا جواب عندي والموقف حساس.. فرأيت أن أقول نكتة لعلي أضحك الجمهور، وسأعيدها على مسامعكم الآن لعلكم تضحكون، قلت للسيدة: في الحقيقة كلام صحيح، لكن زوجتي تقول لي: أنا لا أفضل أن نقود السيارة. وعندما سألتها لماذا؟ قالت: لدينا مليون أو أكثر من مليون سائق وأغلبهم من شرق آسيا، هؤلاء المليون يعيلون عشرة ملايين من خلفهم، فلو قادت المرأة السعودية السيارة بنفسها لوجد هؤلاء المليون أنفسهم بين ليلة وضحاها خارج العمل؛ ومعنى هذا أننا قضينا على غذاء ودواء عشرة ملايين نسمة، ولذلك نحن نفضل أن تبقى المرأة السعودية مع سائق حتى نعيل هؤلاء الناس الذين هم في حاجة إلينا. طبعاً ضحكوا، لكنها ضحكة في مكانها لأنها أخرجتني من المأزق. هذه من المواقف الطريفة وهي كثيرة. ومن المواقف الطريفة أيضاً أن سيدة كانت تلقي محاضرة عن النساء السعوديات الذين لديهم "بزنس" أي يديرون عملاً، وكانت هذه السيدة مخلصة جداً وأحضرت أرقاماً وإحصائيات عن عدد النساء في جدة وفي الرياض وفي الدمام وهي المدن الكبيرة في السعودية اللواتي يمارسن أعمالاً ولديهن سجل تجاري، فكانت الأرقام كبيرة للغاية ولا تقبل الشك لأن السيدة مخلصة وهي دكتورة مشهورة ومعروفة، وبعد تلاوتها الأرقام قام رجل شاب من الذين يسمون أنفسهم من المعارضة السعودية المقيمة في الخارج فقال بالميكروفون للحضور والحضور كبير، وأحرج السيدة وأحرجنا.. قال: يا إخوان لا تصدقوها، لأن الموظف في المملكة العربية السعودية لا يستطيع أن يأخذ سجلاً تجارياً فيسجل السجل التجاري باسم زوجته أو أمه أو ابنته، وإن 90٪ من هذه الأرقام هي أرقام مضللة وليست صحيحة.. المرأة في المملكة العربية السعودية لا تأخذ سجلاً تجارياً ولا يمكن أن تفتح محلاً إلى آخره.. وأسقط في يد الدكتورة المسكينة فماذا عساها تقول لهذا الرجل؟ لقد أحضرت أرقاماً من الغرفة التجارية ولم تحضرها من عندها، وأنا متأكد من أنها أحضرتها من الغرفة التجارية، إلا أن الله فتح عليها وقالت: أنا لا أقرأ النوايا وهذه أرقام موجودة في الغرفة التجارية السعودية، وإذا كنت تشك في الأرقام فهذا هو رقم التليفون ورقم الفاكس فبإمكانك أن ترسل وتطلب وأنا لا أنسى سأضع هذا الرقم عند مدير الندوة وهو بدوره يتأكد حتى لا يُلقى كلامنا على عواهنه.
لقد تلقيت للتو ورقة من راعي ومدير الندوة تقول إن الوقت انتهى وأنا الآن في المحطة الرابعة من ضمن عشر محطات، ولذلك سوف أتوقف بناء على طلبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
راعي الحفل الدكتور مدني علاقي: شكراً لسعادة الدكتور عبد الله العسكر على هذه المحاضرة القيمة، ونعتذر إذا كانت له بقية في هذه المحاضرة فربما تسجل في ما بعد في إصدارات الاثنينية.
الآن نبدأ الحوار كالمعتاد. هناك أسئلة وردت من قسم الرجال، وهناك طلب من قسم السيدات أيضاً، ونبدأ بقسم السيدات لعل لهم كلمة، وتتفضل الأستاذة منى مراد بكلمة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :688  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 123 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج