شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمد الشاكرين، وأصلي على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد..
من منطلق ما تحدث به الشيخ عبد المقصود، وذكر الوشائج، فإن هذه الكلمة أيضاً من الوشائج، لأنها لم تكتب اليوم، بل بالأمس غير البعيد، هي كتاب عنوانه يتحدث عنه: "كان أبي معلماً". هذا الكتاب للأستاذ يوسف، يتحدث فيه عن والده رحمه الله، كتاب ممتع حقاً وعمل أدبي روائي إنساني، كما ذكر على غلافه الأخير. لا تتجاوز صفحات هذا الكتاب مئة صفحة، كتاب الأستاذ عبد التواب يوسف عن أبيه المعلم، بهذا الاسم الذي اتخذته عنواناً يتحدث ابن عن أبيه المدرس بصدق وتجرد، لأن أباه كان مخلصاً لرسالته وفياً لها، بذل قصارى جهده ليضيء الطريق للآخرين، يعطي من ذات نفسه، يكد ويجد في مطلع القرن الحالي، في قرى مصر النائية، الصغيرة، ينشر العلم ويشيعه بميدان، أو بدخل زهيد بدأ بجنيهين مصريين، وهو سعيد كل السعادة بالنجاح الذي يحققه كل يوم، بل كل ساعة في حصة درس يؤديها لأبنائه الصغار، بل إخوته لأنه كان شاباً يوم أن اختير مدرساً، يبث في نفوسهم روح الحب للوطن، ومعرفة تاريخه، وجهاد رجاله للتخلص من المحتل الجاثم على أرضه. كان ذلك أيام المناضل سعد زغلول، والأستاذ يوسف يتحمس لانتفاضة أمته، ويتابع بقلق أخبار اعتقال سعد زغلول، ويشارك ببث الوعي في القرية للمطالبة بالإفراج عن الزعيم الذي وقف مع الشعب، ويندد بعمل المحتل وقمعه لنداء الحرية، ويوسف يومئذ فتى يافع، لكن عقله ونفسه أكبر من سنه، وبصيرته أبعد وأعمق من حجمه.. ليت تلاميذ الأمس وطلابه الذين أصبحوا اليوم رجالاً يحتلون مناصب كبيرة مرموقة، يديرون ويشاركون في الحكم، لهم أفكارهم ونفوذهم، وكلمتهم المسموعة، ولهم الثراء العريض.. ليتهم يتذكرون أساتذتهم الذين أثروا في نفوسهم، وأثاروا عقولهم، وعلومهم، وأضاءوا لهم سبل النور بالعلم، فيدعون لهم بالخير ويترحمون عليهم، ويحسنون إلى المعوز منهم، والذي قعد به جهده، وتقدمت به السن، ولم يجد من يواسيه.. ليتهم يفعلون شيئاً من ذلك اعترافاً بالجميل، وكفى بذلك جزاء يملأ أنفس مدرسيهم سعادة، ويجعلهم يجددون ذكرياتهم، تغمرهم البهجة والرضى، على ما قدموا وبذلوا من جهد، وعلى ما ضحوا من أجل أداء رسالتهم السامية، لإشاعة العلم ونشره بين طلابهم، لكي يصبحوا رجال الغد اليوم، وما أسعد النفس حين تنال جزاء ما قدمت عن رضى، تبذر خيراً وتيسره، لا تبغي بذلك جزاء ولا شكوراً إلا من الله عز وجل. وليس أقسى على النفس من الجحود والنسيان والإهمال، لأن جزاء الإحسان إحسان مثله، بل أكثر.
في الفصل الأول من كتاب الأستاذ عبد التواب يوسف المطبوع في دار المعارف في مصر، في العام الماضي، هذا الكلام يسأل الابن أباه قبل ثمانٍ وعشرين سنة -أي في عام 1981م- هذا السؤال: هل يعطونك ما يقابل هذا الجهد الجهيد؟ فيبتسم الأب المدرس، ويجيب بهدوء: "لا تتوقع من الحياة أن تعطيك مقابل ما تبذل، ثم إنني لست بقالاً أو عطاراً، حتى يمكنني تقدير ثمن بضاعتي، لكني على ثقة من أن للجهد ثمناً غير منظور، لا أعرف كيف يمكن أن يؤدى لي، بل لا أنتظر أن يؤدى، إنني أومن أن التعليم ليس وظيفة أو مهنة أو عملاً، إنما هو رسالة وحياة". هذا هو جواب إنسان يؤدي دوراً مهماً في الحياة، ويملأ نفسه هذا الإيمان بالواجب، في أجل رسالة لا بد أنه أداها، ويؤديها بكل ما يملك من قوة وصدق وتضحية وصبر، ينمي فكره وعقله، ويزداد حيوية كل يوم، ويؤدي ما يعلم وما يتعلم في اطمئنان وأمانة وصدق إلى تلاميذه، وحديثه من القلب إلى القلب، ليصل إليهم ما يفرغه فيهم من مادة، يؤثر فيهم ويشدهم إليه، لأنه صادق وقد صدقهم، وما كان من القلب فإنه يصل إلى القلب مباشرة وبعمق، ويعمق أثره، وتأثيره، ويحقق نتائج قوية لا تضعف، ولا يتسرب إليها الشك.. وهذا دور المعلم المثالي ورسالته، وما عدا ذلك فوظيفة إدارية أو استثنائية، فلا يعول عليها ولا تأثير لها، ولا أهمية لشأنها. يمضي عبد التواب في الفصل الأول من كتابه "كان أبي معلماً"، في الحديث عن أبيه، فينبئنا أن الأب سقط مريضاً، فمضى به نحو القاهرة إلى طبيب أستاذ جامعي تجاوزت شهرته بلاده، وانتظرا أمام عيادة الطبيب المشهور دورهما طويلاً، ودفع قبل أن يدخل على الطبيب أجرة الفحص: جنيهان، وكان يومئذ مبلغاً له قيمته، لا سيما على أمثالهما. حين جاء دورهما اندفعا إلى داخل عيادة الطبيب الكبير فنظر الطبيب نظرة تفحص، وعرف الشيخ، وراح يحييه ويرحب به، وظن الابن أنها عادة عند الطبيب أن يلاطف زائريه ويحتفي بهم، ثم بدأ يفحصه، ويسأل الشيخ أسئلة مختلفة، أكثرها شخصية عن دراسة عبد التواب بن الشيخ يوسف، ثم قرر الطبيب ضرورة بقاء الشيخ في إحدى مستشفيات العلاج والملاحظة، وحجز للضيف في مستشفاه الخاص. أحس الأب والابن بالحرج، فمن أين لهما نفقات الإقامة في المستشفى، وحالهما لا يعلم بها إلاّ الله؟ وكتب الطبيب بضعة أسطر على ورقة وطواها، ومدها للشيخ، وقال له: عليك أن تكون صباح الغد في المستشفى، وفي الورقة العنوان.. أحضر معك الأشياء المطلوبة، كالملابس وما إليها. ومضى الشيخ وابنه إلى باب العيادة، والطبيب خلفهما ليودعهما، محيياً الشيخ.. وخارج العيادة والطبيب خلفهما، فتح الشيخ الورقة التي تناولها من الطبيب، فإذا بها تحتوي الجنيهين اللذين دفعهما كأجرة للفحص، فالتفت ليقول للحكيم: ما هذا يا دكتور؟ فابتسم الطبيب قائلاً: هذه أجرة الكشف، وسوف أكون شاكراً لو قبلتها. وسأل الشيخ الطبيب: لماذا تردهما؟ فابتسم الطبيب مرة أخرى، وقال للشيخ: سوف أكون سعيداً، لو جلست إلي لشرحت لك الأمر. وعاد الاثنان إلى العيادة، وتهدج صوت الطبيب العالمي الكبير، فسأل الطبيب الشيخ: ما أظنك يا أستاذي تذكرني؟ فأما أنا لم أنسك يوماً، وأنا واحد من أبنائك، تلاميذك في بني سويف. ومضى الطبيب يقول: أنا أعلم أن مواكب التلاميذ بالمئات، بل بالألوف، قد مروا بك يأخذون من علمك، وليس من السهل أن تذكرهم، وقد كبروا، أما هم فإن صورتك لن تبارح ذهنهم، ولقد عشت أنا شخصياً كل هذه السنين أنتظر لقاءك، فأنت وراء كل خطوة ناجحة خطوتها في حياتي. جلس الأب الشيخ والابن صامتين، والطبيب يتحدث، ويزداد صوته تأثراً وعمقاً، ثم قال الطبيب: إنني أحتفظ هنا بمكتبي بكراسة الإنشاء التي كتبت فيها بخط يدك، الكلمة النبيلة؛ عبارة فرشت طريق عمري بالنور. ومد يده وأخرج الكراسة القديمة، وقد جلدها، وقلب صفحتها، ثم مد بها إلى الشيخ الذي تطلع إلى خطه وكلماته بلهفة، ووجد ما كتب بخطه الأحمر هذه الجملة: "ليتك تصبح يا بني طبيباً إنساناً، كذلك الرجل الذي صورته في موضوعك. هذا أملي فيك". وحمد الشيخ ربه مرات، وقال: كنت أظن أنني أضعت حياتي هدراً، ورد الطبيب: لقد صنعت حياة الآخرين، لقد صنعت البشر، أنتم المعلمون الصناع الحقيقيون في مصانع الثقافة، التي تنتج الأطباء، والمهندسين، والصحفيين، والمحامين، وكل الناجحين في الحياة. أنتم الأساس، أنتم صنعتم زعماء وأبطالاً وقادة، يعيشون جنوداً مجهولين، لكن ثق أن فضلكم في قلوب أبنائكم. ودمعت عينا الشيخ، وتمتم قائلاً: لقد عشت عمري كله معلماً، لأجل هذه اللحظة، إن البعض يظن أن المرتب الذي يتقاضاه المعلم هو مكافأته عن عمله، لا؛ إن مكافأته لحظة كهذه، يتوج فيها عمره. وقدر الشيخ الجنيهين اللذين ردهما إليه الطبيب بمليوني جنيه، واحتفظ بهما في علبة بقية حياته، لم تمتد إليهما يده إلا ليتفقدهما حتى ساعة الحاجة، وكلما ضاقت به الحياة وأظلمت مد يده إلى العلبة، ليفتحها وينظر إلى الجنيهين، فيعود إليه الأمل من جديد وتطيب نفسه. وحين نتابع كتب عبد التواب يوسف من أولها، نجده طفلاً في قرية الفشن من صعيد مصر، ألحقه أبوه بكتاب الشيخ عبد السميع ليحفظ القرآن الكريم، ويظهر ذكاء الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة، ويزداد حفظه، ويبز أقرانه حتى الذين سبقوه، فيصبح عريف الكتاب، ويتم حفظ القرآن في ثلاث سنين، ويقرأ تاريخ بلاده، وجهاد زعمائه ضد المستعمر، ويتابع نضالها، ويشارك فيه، بعد أن أصبح معلماً في القرى المجاورة لقريته في صعيد مصر. ثم يتعرض للفصل والطرد ولزوم قريته قسراً، ويمضي يجاهد، ويعلم ويزرع حب الوطن في تلامذته، وكانت الساعة الثامنة من كل صباح، موعد سعادته ليلتقي بتلاميذه وليحدثهم عن دورهم وما ينتظر منهم الوطن.. وكل حصة من دروسه ميلاد جديد له ولتلاميذه، فأحبوه كل الحب، وآثروه على غيره من المعلمين، وتعلقوا به، وظل يتنقل من قرية إلى أخرى، ينشر العلم، ويحث على العمل، لا يتوانى ولا يكل، ولا يسعى إلى جاه أو مال، وإنما صاحب رسالة يؤديها، سعيد بهذا الدور الخطير الذي ينهض به، إلى أن توفاه الله، ومشى في جنازته البلد كله، وفي مقدمة أهله تلاميذه، يذرفون الدموع، ويترحمون عليه، لأنه غرس فيهم روح الجد والعلم، لأنه مثالي. لقد استمتعت بهذا الكتاب ساعات، لا يعدلها شيء من متع الحياة، ولولا خوفي من الإطالة لأتيت على كل دقيقة في حياة هذا الرجل رحمه الله، ومعذرة للإطالة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: شكراً للأستاذ عبد الفتاح أبو مدين راعي هذه الأمسية. أيها السيدات والسادة، الآن تعطى الكلمة لضيفنا المحتفى به، سعادة الأستاذ عبد التواب يوسف أحمد، ليحدثنا عن محطات في حياته، وعن رحلته مع الكتاب والقلم، فليتفضل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :541  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 105 من 199
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.