شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(1)
خيّل إليها أن عمرها الغضّ الناهد نحو العشرين.. قد تحوّل إلى ((برشامة)) صغيرة، في يد تلميذ مضطرب، قلق، خائف.. لم يراجع المعلومات التي تقوم لاختبار فهمه لها، وقدرته على استيعابها، وشرحها!
ها هي ((ليَالْ)).. النبتة الطالعة من عمق مجتمع، كان شديد المحافظة.. وخلال عشر سنوات أخيرة أخذ في الاتساع الخطير، وأخذت بعض جوانب الساتر المحافظ تتساقط رويداً!!
كأنّها ((سندريلا)) التي يتركها أهلها وحدها مع الجدران والصمت.. شاخصة عيناها إلى السقف.. إلى الجدار.. لعلّ أحدهما ينشق ويخرج إليها رجل يقيس فردة حذاءٍ على قدمها.
هي حرّة في استهلاك الوحدة والصمت.
وتقف كلّ مساء بقلبها الصغير، ووجهها المنمنمة قسماته.. تحادث مرآتها في هذه الغرفة التي تشكل عالمها الحافل بالحلم، وبالتخيّل، وبالأماني.
يحترق وجدانها في داخلها.. رغم افتتاح نضجها لعمرها العشريني.
وتحترق أحلامها في وجدان مجتمعها الذي أحكم جيله السابق كلّ الأبواب والنوافذ على الفتاة للمحافظة على نقائها، وعفويتها، وأحلامها بكراً، وبدون بدائل، وثقة.. فجاء جيل بعده يسقط في الركض نحو ذلك الاتساع الخطير.. ماديًّا، وترويجاً لعشق الذات!
وهي في هذه النهدة من العمر.. مطلوب منها أن تنتهي إلى قرار بعيد!
ما هو القرار؟!
كيف يكون القرار؟!
هذا هو عذابها الذي يرميها، وينشرها، ويبدّدها كوشاح أبيض شفّاف تعبث به الريح العاتية!
خيّل إلى ((ليالْ)) أنّ هذا العمر قد يضغط -فجأة- من كبسولة صغيرة هشة.. لا تصلح للتناول أكثر من مدى ساعة في الزمان!
وفي خلال الساعة.. تحدث أشياء كثيرة، وتفسد أشياء أكثر في معايشة الإنسان!
- تتنهّد في شرودها، وتهمس: اللّحظة الجميلة مسرعة لا تتوقّف!
وفي كلّ مساء.. تطلق ((ليالْ)) هذه التنهيدة، وتردّد الهمسة الحزينة نفسها.
وبعد كلّ تنهيدة وهمسة من داخلها إلى شرودها وصمتها.. تسترجع شريطاً طويلاً، يعرض أدقّ لحظات وثواني هذا العمر الغض منذ أن بدأت طفولتها، وحتى بلغت العشرين.. دوّنته في مذكراتها اليوميّة.
لا تريد -في البدء- أن تتجاوز الزمن.. بل تحرص أن تتوقّف عند مَطالِعه، وثوانيه، ومفارقه.
وفي العمق.. ركّزت على تأثير المجتمع، وتأثُّر الأسرة، الحب، التواؤم، المتغيّرات، الوعي، هجمة الماديّات، السلوك.
تلك كانت هي الثوابت، والفواصل، والشرائح، والاتساع الخطير بعد ذلك!
ويوم فكّرت أن تدوّن مذكّراتها.. كانت في مناسبة احتفالها بدخول الجامعة، وكان وعاؤها النفسي يفيض بالحكايات، والمواقف، والجروح، والأصداء، والدموع.
يومها.. ملأت صفحة مذكّراتها الأولى بهذه الرؤية التي استخلصتها، فقالت:
- في هذا الزمن القصير، ما زلت أعاني من المراهقة والحَجْر ((المألوف)).. أتلفّت إلى هناك، حيث من يفرح، ومن يحزن، ومن يوصله الغرور إلى درجة الفشل، ومن يرتفع به التواضع وغنى النّفس إلى ذروة الاكتفاء، والرؤية الأحسن!
ويبدو الإنسان ((كلمة)) -بعقله ووجدانه.. بقدراته وضعفه- كأنه يقف تحت إضاءة مكثّفة وقويّة في غرفة العمليّات، وهو لا يعرف ماذا سيفعل به هذا الجرّاح: (الحياة).. هل يفتح بطنه، أو دماغه، أو يجري جراحة في عينيه، أو يشقّ صدره ليصل إلى قلبه؟!
إنّ العمليّات الجراحيّة التي يجريها هذا الطبيب/الحياة، مستمرّة.. دون أن يقدر الإنسان على الاعتراض!
وتستغرق ((ليالْ)) في تخيل هذه الصورة التي كتبتها ذات يوم في دفتر مذكراتها، وكأنّها تجسّدت أمامها حقيقة!
وكأنّها -بعد ذلك- واصلت التخيّل، وهي مغمضة عينيها، مستلقية في فضاء هذه الغرفة الصغيرة الأمينة على أسرارها.
واتّسعت الصورة التخيليّة.. حتى شملت الدنيا خارج غرفتها.
كأنها الآن خارج غرفة العمليات: (الدنيا)، تقف شاخصة من فتحة زجاجية دائريّة تؤدي إلى ردهة مجهولة لا تعرف ما وراءها، ولوحة مثبتة على باب الغرفة، كتبت فوقها عبارة: ((غرفة عمليات الحياة.. ممنوع الدخول إلاّ لصاحب الدور))!
وجذبت نظراتها غرفة أخرى بجانبها، كتبت عليها عبارة: ((غرفة الإنعاش.. الدخول ممنوع، إلاّ لمن سيستأنف دوره في الحياة تحت التجربة))!
- قالت: إذن.. هذا هو الاختصار القاسي، والدقيق، والواقعي.. لكلّ الركض المتواصل في الحياة ومن أجلها.
وذلك هو المرض الأقسى الذي يطيح بكلّ صولة الإنسان!
لحظتها.. تكون الحياة قد احتشدت كلّها في المسافة القصيرة التي يندفع إليها الإنسان، أو يذرعها من بداية الممر/العمر، إلى بوابة تؤدي نحو غرفة العمليّات!
ارتعشت ((ليال)) وهي تفيق من هذا التخيُّل.. كأنّ إضاءة الكهرباء الشديدة قد أطفئت فجأة!
شعرت أنّها في تلك اللحظة تكاد تفقد الشيء الصغير، والممتع، والحميم.. ذلك الذي يكفل للإنسان في لحظة ما: بعض الدفء، وبعض الاكتشاف، وبعض الرّاحة!
وكأنّها -في ارتعاشتها وإفاقها- قد رأت في إثر ذلك.. باب غرفة العمليات يفتح، واختلطت بصوت افتتاحه آهات الترقّب والقلق!!
تلك اللحظة.. هي التي خُيّل لها فيها أنّها صعدت إلى نجمة من النجوم العالية التي يسير الإنسان تحتها وحيداً.. إذا ما خذلته نوعية الروابط الإنسانية، وإذا ما تعاقبت العمليات الجراحية في أعماقه!
كأنّها كانت -آنذاك- ترى العمر المُختصر في ساعة.. يلوح وكأنه كلّ الزمن.
كأنّ عمرها الغض العشريني.. قد تمدّد أو استرخى، وأعلن عن قدوم الحياة من جديد!
إنّها لا تريد أن تخسر الأمل.. برغم الآلام التي عصفت بتجربتها الصغيرة، وطوّحت بأحلامها الكثيرة!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :555  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 123 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج