شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(1)
هناك -في العالم الواسع- من يذكر ((الضحك))، ويتحدث عنه، ويصدر الكتب عن فوائد الضحك!
ولا بد أن نجد في العالم الواسع من يتكلم عن الضحك، ويؤلف عنه، ويضحك أيضاً، ونحن نضحك، ونريد أن نضحك، ونشتاق في بعض الأوقات للضحك حيال كثافة الأحزان!
إن ((الضحك)) هو المعادلة الصعبة للحزن!
إن ((القهقهة)) مطلوبة بعد الدموع!
هكذا الحياة.. وإلاّ مات الإنسان بانعدام تناسق المتناقضات!
وها هم الآن.. قد بدأوا يتحدثون عن الضحك، فلا بأس!!
إنهم أولئك -في البعيد- الذين تطحنهم ((الآلة))، وتنظمهم ((الساعة))، بدون اختلال ثانية واحدة، ويستمرون في إنشاءات حضارية.. في الوقت نفسه الذي يمارسون فيه كل أساليب القهر والظلم ضد شعوب العالم الثالث، أو العالم النامي!
إنهم يقيمون قاعدة للمواءمة بين الظلم والنطق.. بين الحضارة والقمع الوحشي!!
إنهم ((الكبار)) في العالم.. الذين أسهموا بقدر كبير في إخراس الضحك، أو تحويل الضحك إلى ((نكتة))، للتنفيس أو للتهريج!!
واستوقفني عنوان كتاب لطبيب أمريكي اسمه ((رايموند موز))، وهو ((الضحك.. فائدة لصحة الإنسان))!!
ولكني وددت لو رأيت ذلك الطبيب ((الأمريكي)) لأسأله:
- ((وكيف يضحك مواطن فلسطيني مشرد في خيمة؟!
بل.. كيف يضحك طفل فلسطيني بريء في الأرض المحتلة.. يواجه رصاص جنود عدوّه، وهو يقاومهم بالحجارة؟!)).
يبدو أننا سنفاجأ بفلسفة جديدة للضحك ((الحديث)) في وقتنا هذا!
ونعرف -بكل الحزن- أن الضحك صار ((مطلباً)) عاجلاً لإنسان اليوم.
ونعرف أن الضحك.. صار ((وصفة)) طبية، تُعطى لكل إنسان يعيش في هذا العصر.
ونعرف أن الضحك صار ((دواء))، وارتفع ثمنه بجنون في صيدليات الحياة والتجارب!
ونعرف أن الضحك -أخيراً- لا تستطيع أن تجده في كل صيدلية، ولا في كل يوم!
إذن.. لا بد أن توصي على الضحك، ليتم ((تركيبه)) من عدة خواص!
بمعنى أن الضحك لم يصبح ((طبيعة)) في الإنسان.. بل تحوّل إلى ((ضرورة))، وحاجة، وعلاج، وتركيب، ومطلب غالي الثمن!
وأتذكر عبارة قديمة للكاتب المصري ((إبراهيم المازني)) قال فيها: ((لم يتبقَّ في طبيعة إنسان اليوم مخزون من المرح، حتى نفكر في الضحك.. لكنّنا نحاول الآن أن ((نصنع)) الابتسامة، والضحك داخل حناجرنا، ثم نصدّرها من خلال شفاهنا! لقد أصبح الضحك صناعة ضرورية.. لننمي بها مرحاً عصرياً في حياتنا!
تغليب الضحك:
ومثل كثير من الأشياء التي حاولنا أن نضع فيها التسهيلات عن طريق تعليبها.. حاولنا أيضاً أن نغلّب المرح والضحك، ونفتح تلك العلبة في الحالات الاضطرارية.. لئلا يسقط الإنسان من الحزن، أو من الهم، أو من الظلم، أو من الخوف، أو من الاكتئاب!
إن الذي يحدث -على امتداد الكرة الأرضية، أو مع دورانها- هو ذلك الخوف المتراكم من أسبابٍ كثيرة.. لعلّ من أهمها:
((ازدهار)) ظلم الأقوياء ضد الضعفاء.. إلى درجة خفوت أنين المظلومين، وأصبح الظلم مبلوراً في شكل قوة سلاح، أو قوة خبث، أو قوة مال، أو قوة قهر!
اضطراب المعادلات التي تؤثر بين مطالب الإنسان وقدراته، ومكتسباته.
وسقوط الإنسان في أمراض القلب، والسرطان، وأمراض غامضة أخرى.. وفتّاكة.. مما أحدث الهلع، حتى من ((الغذاء))!
خلخلة اليقين.. بفعل ما زرعه الشك والإلحاد من أسئلة تنثر القلق والزيغ!
طغيان الإغراءات المادية التي كثّفت ((أميّة)) الوجدان والمشاعر!
وبقدر ما ركض الإنسان مساحات شاسعة، بعيداً عن الحذر، وترديد: ((العمر واحد!)).. فإن هذا الإنسان في كل قفزة يسقط في الخوف، ولكنه يبدده بعدم المبالاة!
يعني ذلك: تضخم التسيّب، وإهدار الالتزام بفكرة، أو بقيمة، أو بهدف، أو حتى بعاطفة نقية من الشوائب، والظن، والتوجّس المضطرب!
ولهذه الأسباب.. خسر ((أحياء)) هذا العالم قدرتهم على الضحك ((الطبيعي)) العفوي، غير المصطنع.. ولم تعد أغلب هذه الابتسامات على الشفاه، سوى مرح معلب، أو مرح ((مدروس)) لمصلحة!
تماماً مثلما يحس المرء بالجوع، وليس عنده غذاء مشبع أو مُشَهٍّ.. فيفتح علبة السردين! أشياء كثيرة أصبحت مثل السردين ((!!)).
وذات مرة.. قالت ((جوزفين)) كلمة حزينة في أذن ((نابليون)):
- ((ألاحظ عليك أيها القائد العظيم أنك لم تبتسم طوال أسبوع كامل، فهل أنت مريض، أم تعاني من هم ثقيل؟!)).
أجابها: ((لقد تعبت يا عزيزتي من ((تصنيع)) الابتسامة فوق شفتي، وأنا أقابل بها القادة والناس كل يوم.. بينما أحس في قرارة نفسي بالهزيمة قادمة!)).
قالت له: ((لا تدع التشاؤم يسيطر عليك، فسيقتلك.. ثم إنك حققت انتصارات عظيمة، فلماذا تتوجس الهزيمة في هذه المرة؟!)).
قال: ((حقاً لماذا.. ولكني أعرف أن شعوري لا يكذب، فهو أصدق ما أحمل!)).
وهكذا.. عندما فقد ((نابليون)) القدرة على الابتسامة، أو القدرة على المرح والضحك.. فقَدَ معها التفاؤل بالانتصار!
* * *
أما ((رايموند موز)).. فقد علّل اعتبار الضحك تعليلاً طبياً أو عملياً، وجعله من أهم عوامل استمرار الحياة، أو استمرار حيوية الإنسان.. لأن الضحك يعطي هذه المميزات:
الضحك يخفّض ضغط الدم المرتفع.
يقلل من النزعة العدوانية، والتوتر.
يساعد على التفاهم.. فيؤثر -بالتالي- على حالة الإنسان بوجه عام.
ويضيف الطبيب الأمريكي دلالة أخرى على نظريته، فيروي حكاية مريض كشف عليه، وكان يعاني من مرض خطير في العظام.. فيقول ((رايموند موز)):
ليس معجزة أن يشفى المريض من عضاله أو مرضه الخطير.. فقد عالجته بواسطة الضحك!!
بقايا المرح في الذكريات:
ولا بدّ أن يعترضني أحدكم، فيقول لي بعد ذلك: لكننا ما زلنا نضحك.. فما بالك تهدّ الدنيا، وتنذرنا بخطر لا وجود له؟!
وهذا صحيح.. فنحن نضحك، وما زلنا نضحك، وسنستمر نضحك!
ولكن.. أكثر الذي يضحكنا، أو يحملنا إلى الشعور بالمرح، هو عودتنا إلى تذكّر ما مر بنا.. إلى نداوة الذكرى والمواقف الأجمل.. إلى ما ترسب في أعماقنا من ذكريات، تُريحنا نفسياً.. كلما عدنا إلى تذكرها، وعاودتنا أصداؤها.. فكأنه المرح أو الضحك المعلّب!!
كذلك.. فإنه من الإجحاف إنكار لحظات من الرغد النفسي، أو الرغد في المرح، مهما كانت دوافعها، داخل معايشتنا لمشكلاتنا اليومية، ولهموم عصرنا، ولملامح عالمنا الواسع.. المشمول بكل الكرة الأرضية، وانبعاجاتها التي تزداد!
لكنّ الملاحظة الطبية التي طرحها الطبيب الأمريكي.. تركزت على انطباع هام، يقول: ((عليك أن تلاحظ وجه إنسان يبتسم أمامك.. إذ سرعان ما تختفي وتذوب الابتسامة من شفتيه، أو أن عمر تلك الابتسامة ليس أكثر من عدة ثوان وتتلاشى.. بينما تعبير الحزن، والتأمل، يبقى على وجوه الناس وقتاً أطول، وليس في مقدور الإنسان أن يبرع في التمثيل بكل موقف!)).
ورغم ما قاله الطبيب الأمريكي.. فإنني لا أستطيع أن أذهب معه إلى منتهى انطباعه، فما زالت الدنيا تحفل بالخير، وما زال الناس يتوقون إلى شفاههم، ويفكرون كيف تستقر عليها نظرات الآخرين.
وإذا لم يكن ذلك.. فلا بد أنّ أخطر مرض مستعصٍ في هذا العصر، سيكون الكآبة! والنفس -بطبيعتها- لا تطيق الأسر الدائم في الكآبة!
ويشدني خبر ((مثير)) نشرته إحدى الصحف، يقول:
في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس عليك إلا طلب أرقام معينة، فيرد عليك صوت، ويحكي لك النكت والقصص الظريفة، ويجيب على مائتي سؤال طبي، وغرامي ((!!)).
ويضيف الخبر: لقد نشروا إحصائية تقول: يستعمل 80 ألف إنسان رقم هاتف أخبار البورصة وحوالي عشرة آلاف رقم ((حظك اليوم))، وحوالي 40 ألفاً رقم هاتف: ((قصص الأطفال))، و70 ألفاً رقم هاتف: ((أسمعنا نكتة!!)).
هكذا صاروا ((يُصنِّعون)) الضحك.. بعد أن ضاقت أوقاتهم، وزحمتهم المشاغل والمشكلات.
ولكن العالم العربي -بالذات- لم يصل بعد إلى مستوى وحاجة البحث عن هاتف يروي نكتة، أو قصة طريفة، أو كيفية عمل طبق اليوم، أو الإجابة على سؤال ((لمعضلة)) ما!
إن العالم العربي يصدّر النكات ((الطازجة)) ويعاني في الوقت نفسه من الحكايات التي يعتبرها الغرب والشرق طريفة، وما زالت المرأة العربية تدخل مطبخها ولا تعتمد كثيراً على الطهاة، أو المطاعم، لأن نكهة الطبخة العربية مميزة!
أما المعضلات الغرامية.. فمن مميزات العرب أنهم لا يحلّونها -شفهياً- عبر الهاتف، بل يحلونها عملياً (!!) ولم يعد العرب يستسيغون قراءة قصيدة بالهاتف.. فهم لا يبتاعون دواوين الشعر، لا سيما وأن الشعراء تقلصوا، أو اكتأبوا، أو ((تحدّثوا))، أو تحولوا إلى محترفي كتابة سياسية!
فابحثوا عن قلوبكم.. عن دواخلكم، حتّى تعثروا على الفرح الحقيقي.. على الابتسامة!!
دعوة للمرح
كانوا رفاق سهرة تجمّعوا، ليغيروا ذلك الطعم الواحد للأيام والليالي.
ضمّهم مجلس السمر.. وهم: زملاء عمل، وأصدقاء، ورفاق درب.
فجأة.. ((تسرب)) إلى أسماعهم صوت واحد منهم، يقول:
- ((يا جماعة.. دعونا نضحك قليلاً!!)).
الصوت ليس غريباً عليهم، ولكنّ صاحبه -كما عرفوه وتعودوا عليه- كثير الصمت، قليل الكلام، يتجنب التعليق، ويتحاشى الجدال.
التفوا جميعاً نحوه بنظرة واحدة متحدة في المعنى.. نظرة اندهاش واستغراب!!
سألوه بصوت واحد: ((ماذا قلت؟!.. أعد!)).
قال بهدوء يصل حدّ البرود: ((نريد أن نضحك)).
سأله آخر: ((وكيف نضحك.. وأنت بهذا البرود؟!)).
وضج المكان بقهقهاتهم!!
ابتسم صاحب دعوة الضحك، وقال لهم جميعاً: ((حسناً.. لقد جعلتكم تضحكون، ولا بأس إن جاء ضحككم على حسابي، وسخرية مني!!)).
قال واحد منهم: ((لا تقلبها نكداً، نحن لم نقصد السخرية منك، ولكن.. أخبرنا عن السبب الذي جعلك تطلب منا أن نضحك؟!)).
أجاب بالهدوء البارد نفسه: ((ببساطة.. لأننا لم نضحك منذ وقت طويل، كلما التقينا يأخذنا الكلام إلى موضوعات عن همومنا ومشكلاتنا اليومية والحياتية)).
سأله آخر: ((وهل تقبل أن نضحك.. حتى للسخرية منك؟!)).
أجاب: ((ليكن.. المهم أن نضحك، وأحياناً.. نحن نسخّر اللذعة والسخرية لنضحك، وربما لأننا غير قادرين على الضحك بطبيعتنا، ولكننا نكسب وقتاً ونضحك.. ليس لأننا سعداء، أو ((مبسوطين)) جداً، أو ظرفاء ودمنا خفيف، ومغسولين من الهموم.. ولكن لأن الضحك ضروري!)).
قال الأول: ((ما شاء الله.. مثقف، وفيلسوف!)).
وضجّ المكان -ثانية- بقهقهاتهم!
قال لهم: ((هكذا أثبت لكم.. أن ما تبقى من دوافع للضحك، ينحصر -فقط- في سخرية بعضنا من البعض الآخر، أو في اللذعة!)).
وماذا أيضاً؟!
لم يحاول ((أحد)) من رفاق السهرة أن يفهم ما يريد أن يقوله زميلهم.. فتدلت ألسنتهم جميعاً في وجهه، و.. ضجت حناجرهم بالضحك!!
متى يضحك الناس؟!
كانوا زملاء في العمل.. تجمع بينهم هذه الرابطة اليومية -القسرية ربما- في أوقات يشعرون فيها أنهم يحتاجون إلى المرح، والمزاح، ومحاولة الهروب من بعض الهموم والشجون والأفكار التي تجوس في نفس كل واحد منهم.. فيضطر أن يغسل وجهه في اليوم عدة مرات زاعماً أنه يحاول أن يغير ملامح الحزن، أو الشرود من على وجهه!
والتأم شملهم يوماً.. واستغرقهم الحديث عن شؤون حياتهم وشجونهم..
أحدهم.. كان يدخن بشراهة، وأمامه كوب شاي مليء وساخن..
كان مندمجاً في الحوار.. ولم يلحظ أنه أدى حركة كوميدية، ((كاريكاتورية))، دون أن يعي!
لقد أطفأ سيجارته في الشاي، بدلاً من ((الطفاية)) وتناول كوب الشاي.. وقد همّ بشربه!
وضجّت حناجر زملائه بالضحك!
صار يتلفت، ويحدق في وجوههم مندهشاً.. حتى أشاروا إلى كوب الشاي.. والسيجارة بداخله، وهو يضعه على شفتيه! إندمج معهم يقهقه.. حتى حسبوه أنه لن يتوقف عن الضحك!
وانطلقت -بعد ذلك- تعليقاتهم: -((مسكين، اللي آخذ عقلك، مفارق وإلا مديون، أو مطرود من البيت، وإلا المدير خصم من راتبك؟!)).
- قال ضاحكاً: -((أبداً.. ((الباذنجان)) ارتفع سعره!!)).
ترى.. ما الذي جعله يفعل تلك الحركة؟!
ما هو شعور هذا ((الآدمي)).. هل كان شارداً يفكر في مشكلة تقض مضجعه.. أم كان يعاني من حزن، أو آلام.. أم أنه لا يريد أن يضيع لحظة من الضحك حينما تأتي، كما تلك اللحظة؟!
ومتى يضحك الناس؟!
يضحكون من نكتة.. من منظر ساخر، أو من كلمة ساخرة أو لاذعة، أو حتى من كلمة غيبة.
ويضحكون من ((المهرج))، أو يضحكون على غيرهم، ثم على أنفسهم.. فالضحكة لا تفرِّق!
يضحكون على ((غلب)) آدمي.. مارس إحدى التفاهات!
يضحكون عندما يسقط ((شخص)) من فوق كرسيه.. فبعض الضحك يسمونه التشفي!
أحد أولئك المستغرقين في الضحك.. سقط من فوق كرسيه، فازداد ضحكهم.. حتى المصاب ضحك معهم، فكان التساوي في هذه الصورة المتناقضة.. هو دافع الضحك ومادته!!
ماذا يعني الضحك؟
إنها هذه اللحظات المسروقة.
إن الضحك، هو رغبة، ولذة.. وهو كما قال العالم الهندي ((جوبالاسوامي)):
- ((إن الضحك مظهر لبعض الغرائز الدفاعية عن النفس!!)).
بمعنى أن الضحك لذة.. قد نستمتع بها في بعض حالاتنا إلى أقصى درجة، وقد تغتصب هذه اللذة معانينا، وأرواحنا، وروابطنا.. إذا كانت نتيجة لدوافع اللحظات المسروقة!
إن كل ظروف ما يعيشه الإنسان اليوم من إحباطات وآلام، وفواجع وحروب وقهر.. يدفعنا إلى البحث عن تلك اللحظات المسروقة.. عن الضحك في شكل لذة، وفي شكل شعور، وفي شكل رغبة، وفي شكل تنفيس عن الغريزة.. بواسطة الضحك!!
لكننا -رغم ذلك- نبقى إنسانيين.. لا نفقد الأمل والتفاؤل، ونتمسك بالأماني والآمال، والأحلام.
إن الطب الألماني يقرر هذه الحقيقة العلمية، الطبية:
- ((كلما ضحك الإنسان.. أضاف إلى عمره شيئاً!)).
أما ((توماس هوبس)).. فإنه يربط ذلك كله في هذه العبارة التي قالها:
- للضحك وظيفتان، إحداهما: فسيولوجية، تتعلق بالجسد.. والأخرى: سيكولوجية، تتعلق بالعقل!.
كأن هنالك ((شيئاً ما)) في داخل الإنسان، وما زال.. يحاول أن يكسب وقتاً لتوفير الضحك!
وهناك من يضحك.. لأن قلبه نظيف ونقي وناصع، ولا يحمل البغضاء والأحقاد ضد الآخرين.. فهو ليس ضحك السخرية، ولا ضحك اللذعة، ولا ضحك التشفي.. بل هو ضحك من القلب، بكل الصدق والعفوية.
إن فيلسوف الصين ((لين توتانج)).. قال في كتابه الشهير ((من المهم أن تعيش)):
- ((إن الضحك يطهر النفس -نفس الفرد، وأنفس الشعوب- وهو الذي يملك مفتاح القيم الإنسانية، والفهم السليم، والفكر الواضح، والمزاج الهادئ والنظرة المستنيرة إلى الحياة.. فاضحك.. وتعلّم كيف تضحك!!)).
وإذن.. فإن السؤال هنا يتبلور هكذا:
- هل الذي يضحك.. هو دائماً طيب القلب، نظيف الأعماق.. غير الملوث بالضغائن؟!
- هل الذي يضحك.. هو إنسان ضعيف الشخصية؟!
- هل يكون الإنسان ((القوي)) حقوداً، وضحكته صفراء؟!
الأجوبة التي ترد على هذه الأسئلة كثيرة، وكذلك الأجوبة التي لا ترد، وإنما ((تتناسل)) منها أسئلة أخرى عن الضحك، والفرح والمرح، وطيبة القلب، وسوداوية الطوية!
يقال لنا على سبيل المثال، وفي مجال التقريظ:
- ((فلان هذا.. رزين، متجهم لا يضحك للقرص الحار.. ولذلك فإنه وحده الذي يملأ المركز!)). كأن الضحك من صفات ((الهشاشيين))، أو الكرتونيين، أو ضعيفي الشخصية! يقال لنا -أيضاً- في مجال الوصايا، والترشيد، و ((تفتيح العين)) على الدنيا:
- ((من أجل أن تعيش، وتصل، وتكبر، و.. ((تضرب هوبه)) بقدميك وساعديك، فلا بد أن تجيد كل ((الحركات))، وتنزع الطيبة.. فالطيب لا يقدر أن يتقمص عدة شخصيات، ويلبس عدة أقنعة!!)).
بين الابتسامة ولمحة الحزن:
ولا بد أن نقارن بين الضحكة والدمعة.. بين الابتسامة ولمحة الحزن.. بين القهقهة والصرخة!
ولا بد أن نوحد بين الشيء ونقيضه.. فإذا تكلمنا عن ((الضحك)) نجد الحزن مستطرداً بأصدائه في نفوسنا!
فهل ما زال ((الضحك)) ممكناً في وقتنا الحاضر؟!
هكذا تلقف الروائي المصري المعاصر ((يوسف القعيد)) السؤال، وبادر فأجاب عليه قائلاً:
- ((لم يعد الضحك ممكناً.. لأننا فقدنا القدرة على الابتسامة، والآن.. الهم العام والخاص يتداخلان في كل لحظة من حياة الإنسان العربي على الأقل، وهو الذي أعرفه جيداً في أيامنا هذه، وفي قريتنا مثلان شعبيان عن الضحك، مثل يقول: اللهمَّ اجعله خيراً -بعد أن يضحك يتوقف في منتصف الضحك وهو يقول هذه العبارة، ومثل آخر هو: اضحكوا كثيراً لأن الضحك سوف يغلى! وهذا معناه: أن الضحك هو الاستثناء، والقاعدة هي الحزن!!)).
هكذا.. صار الضحك غالياً!
وتأتي شاعرة فرنسية ((شابة)) فتقول مستفيضة:
- ((أنا ابنة الحياة.. والحياة التي نصنعها بأنفسنا..
إنما يصنع أبناؤها أسباباً يمكن أن تحفر للأحزان مجرى..
ويمكن أن تشق للفرح درباً!
أنا ابنة الحياة.. والحياة تمنحنا الفرح لحظة..
وترسب فينا الألم.. عمقاً وتجربة!
فكيف نقرر أن نمحو الأحزان.. أن نضحك من القلب؟!
لا أستطيع أن أضحك على نفسي.. نفسي تعيش الحياة!
وأبناء الحياة.. قد حفروا للأحزان عمقاً..
أنت تدري الحياة.. أم تراك لا تدريها؟
إضحك طويلاً، وابك بلا مدى، وأسألك:
- ما هي إنسانيتنا.. دمعة أم ضحكة؟!
إنها حلوة.. لكن الأنهار قليلة.
لا توجد أنهار في كل مكان.. لكن الآبار كثيرة!!
أنا ابنة الحياة.. والحياة تعلمنا أن لا نضحك كثيراً..
حجم الضحك قليل.. وفي النفس كبير..
فهل تسمعني أيها الإنسان؟!!)).
هكذا.. صار الضحك غالياً!!
ترى.. من يشتري الضحك.. من يبيع؟!!
أنتخب فرحي في مناسبات الحزن
إنني أنتخب فرحي في مناسبات الحزن!
إنني أرشح طموحي لخدمة مصالحي!
إنني عاطفي، و ((متسلخ)) بل إنني أرعرع شجوني، وأصدمها!!
لقد قال ذلك الشاعر ما استهجنته بنفسية الإنسان المتعب.. المبدد في أصداء تلك المساحات!
وهل هناك داعٍ للسؤال؟!
وهل يصبح من الضروري انتظار الإجابة؟!
أي سؤال.. وأي إجابة؟!
إني لا أحاور الفهم، ولا أترصد الإدراك..
إنني -فقط- أتفصد حزناً، ويقهرني العالم!
لست شاعراً، ولكنني ولدت في دواعي الشعر!!
كان الشاعر ((تربا دورا)) ينثر أشعاره في الطرقات على شعر حسناء، فتغني شعره كأنها تشم زهوراً.
وكان الشعر يدخل مسابقات ((البراعة))، من أجل الارتفاع بقيمة الكلمة، فيأخذ جائزة، أو جاهاً.. فكأنه يحول الدنيا إلى معزوفة!
وليست هذه قيمة الشاعر كلها، ولكن المحتوى الوجداني كان هو القيمة، فما قيمة إنسان بلا مضمون وجداني؟!
إن العالم يبدو بلا مضمون وجداني.
العالم يتحول إلى سياسة، والشعر يحترق في هذا التحول.
ولا بد أن يقترب الشاعر من آلام أمته.
* * *
وعندما اندلعت حركة المقاومة الفلسطينية.. انبثق عنها شعراء المقاومة: محمود درويش، وسميح القاسم.
وكانت لهما ولادة أكبر من حجم معطياتهما الشعرية أو الفنية!
كان الاعتبار لوظيفتهما أولاً، وعندما اضطربت دروب ((محمود درويش)) تحول إلى شيء سياسي، ولكنه كشاعر ربما كان مبدعاً.. إنما هذا الإبداع توقف عند محتوى وجداني محدد!
ومحمد الفيتوري برغم شاعريته المبدعة -فقد تسلق صدور الناس، وأذهانهم، وشجونهم يوم غنى لأفريقيا، ثم تحول غناؤه سياسياً فتحدد، ثم توقف عند ((الصوفية))، أو أغرق نفسه في محتوى وجداني محصور!
ويوم أصدر الفيتوري: ((معزوفة إلى درويش متجول))، ظن البعض أنها بداية جديدة لمرحلة مغايرة للشاعر، ولكنه لم يكن أكثر من متلفت متوتر!!
وبحث ((أدونيس)) عن ذلك المضمون الوجداني.. إنه -أيضاً- يعاني من التفاتاته المتوترة.. إنه يخاطب الحجر كزهرة ويعصف بالزهرة كبرق.. إنه يتحدث عن عصره برؤية لا يمتلكها، ويترافع عن قضايا مشروخة، كأنه ((ديوجين))!
أما ((صلاح عبد الصبور)) -يرحمه الله- فبعد مسرحيته الشعرية ((ليلى والمجنون)).. حاول جاداً أن يصعد فوق تراكمات مضمونه الوجداني.. لكنه حدد رؤية معينة في زمن ما، ثم اختلطت المرئيات عنده حتى الصمت، ثم.. الموت!!
و ((غادة السمان)) لا تستطيع أن تصف شيئاً الآن، ولكنها تحتد أمام أي شيء، وكل شيء.. إن هذه الحدة ليست بالضرورة هي مضمونها الوجداني، ولكن مضمونها الأصيل: متوتر، متلفت.. يهبط تارة، ويحلق تارة أخرى، وهذا التحليق هو تعبيرها.. فهي بارعة في التعبير عن شيء غير معروف، أو غير موجود!!
وفي الصحف والمجلات العربية حملة متناقضة على ((نزار قباني)).. لأنه شاعر يدخل قدماً واحدة ثم يخرجها، ويجرب بالقدم الأخرى.
إنه يحاول أن يفتح طريقاً يجسد فوقه زمناً يعترف به غيره!!
ولكن هذا الزمن يبهت في الملامح التي يرسمها ((نزار)) لأنها ملامح مترددة، أو لأن تأمله لتلك الملامح بعد رسمها تأمل متلفت متوتر!
وكل هؤلاء توقفوا عن إعطاء الجديد، وعن ولادة رؤية جديدة لزمن مأمول!
إنهم جديرون بالعذر.. ولكن المضمون الوجداني لكل جيل يتجاوز الأعذار.. فإما أن يقوى عليها، وإما أن تهشمه!!
* * *
وذات مرة جاء أحد النقاد العرب المعروفين، وهو الناقد ((غالي شكري)) فقال:
- و ((اللحظة التي يدعونها الإلهام أو الوحي!!، والتي يقرر فيها الشاعر هذا الأسلوب أو ذاك، هي نفسها اللحظة التي يقرر فيها إيصال هذه الفكرة أو تلك.. هذه اللحظة هي الابنة الشرعية لمجاهدات الفنان مع الحياة والثقافة، وهي أيضاً الثمرة الموضوعية لتكوينه الذاتي المنفرد، أو ما يجب أن ندعوه بالضمير الفني، وهو لا يرادف الضمير الأخلاقي!!)).
وهذا الناقد قد أراد أن يشتم شعراء معينين.. والفكر والفن ليسا في حاجة إلى شتامين، أو في حاجة إلى من يحدد أن هذا الشاعر ذو ضمير أخلاقي، أو ضمير فني.
ولكن المحور هنا أن نناقش في ضمير القضايا التي تواجهنا، وفي ضمير الأحداث التي تفاجئنا. إن الشاعر إنسان قبل كل شيء.. بل هو أكثر حساسية، لأنه يستلهم المضمون الوجداني لأمته، أو لجيله، فهو -إذن- محكوم بالمتغيرات، أو مصدوم بالمتغيرات التي تتسلط على رؤية الإنسان ووعيه وشجونه.
بمعنى أنه إما أن يعبر، وإما أن ينكفئ!
بمعنى أنه إما أن يكون على صواب، أو يكون على خطأ!
وكيف يتحدد الصواب، وكيف يتم الاعتراف بالخطأ؟!!
إن المحتوى العاطفي هو الآن لا أكثر من تلفت متوتر.
وأن الأبعاد الثقافية لا تنفصل عن ذلك المحتوى الوجداني.. لأنها تستنهض رؤية جيل بكامله!!
وكلنا ننتمي إلى هذا الجيل الباحث عن إدراكه، بكل الوسائل والتصور أيضاً!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :731  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج