شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أنا .. والمروءة .. والقوم
الظرف الذي أوحى بهذه القصيدة:
كانت المدارس الشرعية الوقفية في مدينة حلب، على كثرتها، يجري فيها تحصيل العلوم الشرعية على الطريقة القديمة: يجاور الطلاب في غرفها ولكل منها مدرس يعطي في الأسبوع بضعة دروس يحضرها من شاء من هؤلاء الطلاب دون رقابة غالباً في الحضور والغياب على المدرس أو الطلاب، ودون امتحان سنوي يعرف به الطالب المشتغل في التحصيل من الذي يقضي مجاورته لهواً ولعباً، ويتخذ من الغرفة التي يحتلها في المدرسة مأوى لشرب الشاي واستقبال الأصحاب من مختلف المشارب، ودون نظر إلى سن الطالب وإلى قابليته لتحصيل العلم. وقد يبقى الطالب مدى عمره مجاوراً يتقاضى مرتب المجاورة دون جدوى، أو قد يصبح عالماً ومرجعاً للفتوى وهو مستمر في مجاورته يسد الطريق على كل من يرغب في طلب العلم من المبتدئين. وكلتا الحالتين خطأ غير مقبول في ميزان مقاصد الشريعة، ولا يجوز استمراره.
ففي سنة (1359هـ - 1940م) كان على إدارة الأوقاف بحلب رجل مصلح هو القاضي الشرعي الشيخ محمد الأهدلي. فاتفقنا معه أنا وبعض الحريصين على إصلاح الدراسة الشرعية وتنظيمها، لتوحيد جميع المدارس الشرعية من مختلف الأوقاف تحت نظام دراسي واحد تنقسم فيه الدراسة الشرعية إلى مرحلتين تجهيزية (أي ثانوية) وعالية، وتعتبر جميع هذه المدارس بمثابة مدرسة كلية واحدة مدة الدراسة فيها إحدى عشرة سنة، ست منها للقسم الثانوي، وخمس للعالي، ويتخرج الطالب في نهايتها بشهادة تعتبر لها قيمة رسمية، ونتيجة تؤهله للقضاء الشرعي والفتوى والتدريس الديني والإمامة والخطابة... إلخ، ويفسح المجال لغيره. ووضعنا لها نظاماً إدارياً ومنهجاً دراسياً ممتازاً.
فثار المشايخ المرتبطون بهذه المدارس من طلاب ومدرسين على هذا التنظيم تهرباً من الدخول تحت النظام والامتحان السنوي والمسؤولية، واحتجوا بأن هذا التنظيم يخالف شروط الواقفين الذين شرطوا للطلاب المجاورين في هذه المدارس مرتبات شهرية ما داموا فيها، ونصوا على عدم جواز إخراج طالب من المدرسة التي ينتسب إليها إلاَّ إذا ارتكب جنحة. وعبثاً حاولنا إفهامهم الفرق بين إخراج الطالب طرداً، وتخريجه عالماً. وشجعهم الفرنسيون المحتلون للبلاد على مقاومة هذا التنظيم للتعليم الشرعي، ثم حولوا مدير الأوقاف الحازم وأتوا بآخر لين العريكة فطوي المشروع بثورة فريق الكسالى الجامدين من المشايخ عليه، وقد كان هو الأمل المنشود في رفع مستوى الدراسة الشرعية وفرض احترام رجالها على المجتمع.
وفي أعقاب تلك الخيبة، وقلة النصير وكثرة المنافقين للباطل وأهله جاشت نفسي بهذه القصيدة. وقد كنت وقتها قائماً بتدريس الفقه مكان والدي رحمه الله (الذي توفي قبل نحو سنتين) في المدرسة الخسروية التي درَستُ فيها دراستي الشرعية الأولى، والتي أخذتْ بعد ذلك اسم: الثانوية الشرعية. وكان الطلاب مختلفي القابليات والاتجاهات بين شيوخ من المدرسين مختلفي العقليات والمدارك، كثيرون منهم لا يعيشون زمنهم ولا يعون خصائصه. هذا إلى انهماكي في السياسة الوطنية مع رجالها العاملين في حركات النضال ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم.
وقد شعرت إذ ذاك بأني في عزلة وضيق نفسي شديد، وفي طريق مسدود في كل مسعى لإصلاح الفاسد وتقويم المعوج. وسألت الله تعالى أن يفتح لي الطريق، ويخرجني من هذا المضيق، فجاءني الفرج بعد ثلاث سنوات إذ دعيت للتدريس في كلية الحقوق (التي كنت تخرجت منها قبل عشر سنوات بالجامعة السورية بدمشق)، فلبيت الطلب. وهناك انفتح أمامي الأفق بأبعاده الواسعة الحرة في التدريس والتأليف الجامعي، ووفقني الله إلى كتابة السلسلة الفقهية: (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) وأولها (المدخل الفقهي العام) الذي عم نفعه واشتهر في البلاد، ثم السلسلة القانونية وسواها من المؤلفات الجامعية وغيرها. والحمد له تعالى وله الفضل والمنة على ما يسّر من أمري. وهذه هي القصيدة:
عَزَفتُ عن الملاهي حين أُذْني
وعَتْ صوتاً يقول: ألا أغثني
ضعيفَ الجَرْس مهموساً خفياً
وكلٌّ عنه مشغول بشأنِ
نظرتُ فلم أجد، فإذا نداء
يقول: أنا المروءة فاستمعني
فإني لا تراني العينُ لكنْ
تحسُّ ضمائرُ الأحرار لحني
فكنْ ممن ضمائرُهم تراني
وناضلْ في مناصرتي وأَمْني
فقلت لها: ظفرتِ، إليكِ مني
أخَا ثِقَةٍ، وليس إليكِ عنّي
* * *
إلهي في سبيلك كلُّ همّي
أَعِنّي في مقاصده أعنّي
أحاطت بي فلم تتركْ مَفَرّاً
متاعبُ همُّها يوهي ويُضْني
فما قلبي إلى لهوٍ بِرانٍ
ولا طرِبٍ إلى مِتَعٍ تُغنّي
دروسٌ جلَّ يومي منهكات
وليلي بين أطفالي وبيني
قيود أوثقت نفسي فوقتي
بها لم يتسع إلاَّ لسجني
وفي عنقي حقوق للمعالي
تلحُّ علي لا ترضى التأني
تَقَاضاني المروءةُ واجباتٍ
وتفرضها الكفايةُ فرضَ عينِ
حقوق بين أوطاني ودِيني
أراها طوقت عنقي بدَيْنِ
تغافلَ أكفياءُ القوم عنها
وقد ناموا على فُرش التمنّي
نهضتُ بعبئها دهراً فولَّى
حُماةُ الظَّهر في الميدان عني
سليمٌ في معاركها حسامي
ولكن طاح من كفي مِجَنِّي (1)
* * *
وقعتُ إلى زمان ليس عَوناً
على الإصلاح فيه سوى المُعَنِّي
وقومٍ قد أضاع الجهل فيهم
مقاييسَ الترفُّع والتدنّي
نبوغ النابغين إلى اختناقٍ
وكلُّ مُبَرِّزٍ هدفٌ لطعنِ
يبيت لديغَ بهتانٍ وحقدٍ
ويمشي بين حُسّاد وضِغْنِ
جزاء المصلحين مزيدُ بُغضٍ
وإيذاء بألوان التجنّي
يرون العلم والتقوى لديهم
جلالَ عمامةٍ، أو عَرْضَ رُدْن (2)
وليس شيوخهم بأقلَّ سوءاً
من الدَّهماء في سفهٍ ومَيْنِ
ذئابُ مَطامعٍ، فإذا دعتْهم
مصالحُ دينهم فنِعاجُ ضَأْنِ
همُو لُكْنٌ وفي الإِفساد لُسْنٌ
فبئس القوم من لُكْنٍ ولُسْنِ (3)
* * *
رأيتُ عبادةَ الأوثان لَمَّا
تَزَلْ، لكن بدتْ في غير لَونِ
فذا صنمٌ من الأشخاص يمشي
وذا صنمٌ من الأحجار مَبْني!!
لحاها الله من بِيئاتِ سوءٍ
وَبيئاتِ المُناخ على المُبنّ (4)
كأن سفينةً في لُجّ بحرٍ
جرَتْ بي في مَتاهاتٍ ودَجْن (5)
إذا غادرتُها فإلى مياهٍ
تسيء بقعر ذاك اليَمّ دفني
وإن أَمكُثْ فحيٌّ شبهُ مَيْتٍ
وهذا السجن أَقْتلُ لي بحزني
* * *
أُريقُ عُصَارةَ العلم المصفَّى
لمن لم يستحقوا غيرَ تِبْنِ!!
ألا يا ضيعةَ الأتعاب مني
بأدمغةٍ من التضليل حُجْنِ (6)
* * *
فويحَ الدين والإسلام يغدو
صريعَ بَنيه من جهلٍ وأَفْنِ (7)
أتى بالعلم والأخلاق نوراً
ونقَّى العقلَ من شَوْبٍ وشَيْنِ
وقاد فتوحَهم بالعزّ قِدْماً
وسادَ الأرضَ في سهلٍ وحَزْنٍ (8)
فمذ حَكَمَتْهُمُ الأهواءُ صاروا
غُثَاءً لا يُقام لهم بِوَزْنِ
غدَوْا مِزَقاً تَقَاسمها ذئابٌ
وباتوا بين إذلالٍ ووَهْنِ
* * *
عَزائي أَنَّ بَعد الليل صبحاً
وأن الله ذو فضلٍ ومَنّ
لعلَّ لعلَّ للحق انتصاراً
سندرِكُه غداً وتقرُّ عيني
إلهي، أنت مَوْئِلُنا، أَغِثْنا
فقد ساد الضلال بكل رُكْنِ
فغيِّرْ سوءَ واقِعِنا لخيرٍ
بمعجزةٍ فليس سواك يُغني
حلب، غرة صفر/1359هـ = 1من آذار/1940م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2071  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .