شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( فتح باب الحوار ))
افتتح الأستاذ عبد الله ترجمان الحوار بالسؤال التالي:
- إن هناك دائماً خلافات بين العلماء على مسائل فقهية، وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة، ولا يريد أن يحيد عن فتوى مذهبه إلى درجة التشبث به، مما جعل الأمور الفقهية والفتاوى فيها أكثر تعقيداً، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
وأجاب المحتفى به قائلاً:
- أولاً: التشبث بالمذاهب الفقهية والتعلق بها، هذا واجب على كل من لم يكن من أهل الاجتهاد والمعرفة التامة بحكم الشريعة وفروعها وأصولها، فهذا ما أوجبه الله (عزّ وجلّ): فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.. أما التشبث والتيبس في أمر المذهب الواحد، فهذا ليس بواجب في الشرع؛ فيسوغ لِيَ أن أتعلم هذه المسألة أو أعمل في هذه المسألة بالمذهب الحنبلي، وإذا وجدت مسألة أخرى أعمل بالمذهب الشافعي، وإذا وجدت في هذه المسألة شدة أو صعوبة في المذهب الحنبلي أن أنتقل وأعمل بها في المذهب الحنفي، كل هذا معناه أخذها بهدي الله (عزّ وجلّ) وبهدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم وما كان هناك افتراق بين هؤلاء الأئمة، فكل واحد من هؤلاء الأئمة حرص كل الحرص أن يكون اجتهاده أقرب إلى كلام الله وكلام رسوله ما قدروا على ذلك، فلذلك نجدهم إذا وصل الواحد منهم إلى حكم من الأحكام في هذا اليوم، ثم وجد الحكم بعد أيام أو شهور أو سنين، ولاح له وجه آخر في المسألة ووجد المسألة على وجه آخر، يتحول عنها ولا غضاضة؛ وإذا لم يعلمها يقول: لا أعلمها ولا غضاضة، لماذا؟ لأن الشريعة عنده أغلى من وجوده.
- فالإمام مالك (رضي الله عنه) جاء إليه رجل من العراق بأربعين مسألة، فقدمها إليه وسأله عنها، فأجابه الإمام مالك (رضي الله عنه) بست مسائل؛ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله أنا طويت الأرض ومشيت الفيافي والقفار إليك وأنت عالم بالمدينة، أريد أن أعرف هذه المسائل كلها، فماذا أرجع للناس أن أقول لهم؟ قال قل لهم قال مالك: لا أدري، لا يضيره أن يقال عنه قال: لا أدري، لأن الدين عنده أغلى من أن يخجل في سبيله.
 
- فالتمسك بالمذهب من حيث هو إذا كان على عصبية أو غير معرفة، فهذا من النقص في الإنسان، ولا يصح للإنسان أن يعتقد أنه إذا كان والده حنبلياً ينبغي أن يكون حنبلياً، أو شافعياً أن يكون شافعياً، يمكن أن يكون هكذا وهكذا وهكذا.. وهذا من سعة الإِسلام، لأن اتباع أي مذهب هو اتباع للكتاب والسنَّة.. وهذا الاجتهاد ظني، فيجوز للإنسان أن يأخذ به من قول هذا العالم أو قول هذا العالم، أما التعصب والتحزب فهذا ليس من مبدأ المسلمين، ليس من مبدأ الإِسلام وليس من مبدأ الفقه؛ لذلك الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) خالفه أصحابه ودونوا خلافاتهم بوجوده ولا حرج، لأن هذا دين الله ينبغي الاجتهاد في تحصيل الأصح منه، فلذلك هذا الَّذي يقال فيه تعصب أو تحزب، أو تمسك ببعض المذاهب ولا يحيد الإنسان عنها..، هذا من النقص النفسي.. فينبغي للإنسان أن يعدل عنه ويكون واسع الصدر، واسع الرأي، واسع القلب، يقدر كل إمام بفضله وكرمه وعلمه ومقامه العظيم..، فليس أحد من الأئمة أفضل من آخر، وكلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتبس وملتمس - والله أعلم -.
 
ثم وجه الأستاذ أمين عبد الله القرقوري السؤال التالي:
- بحثت عن إجابة عن سؤال ولم أجدها واضحة، وهي عن الإمام الكوثري (رحمه الله) لقد قرأت بعض ما كتب ودهشت لبعض ما كتبه عنه نفر من المنتمين للعلم، لأنهم حملوا عليه حملة شديدة، وعسى أن أجد الإجابة التي بحثت عنها طويلاً من فضيلتكم؟
وردّ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة قائلاً:
- الأمر الَّذي تفضل به الأخ الكريم، هو أمر فيه مسائل علمية شائكة، تتبدى للإنسان فيها أنظار مختلفة، وهذه الأنظار المختلفة لا تحل بكلمة أو كلمتين، ولكن للإنسان أن يرجع لما كتب في هذا وما كتب في هذا؛ وإذا كان عنده قدرة التمييز يدرك الصواب من الخطأ، وليس أحد من الأئمة أو العلماء زعم أنه معصوم أو له العصمة، وقوله الحق والصواب دائماً أبداً إلى آخر الحياة..، لذلك إذا كان هناك آراء أو أقوال للأستاذ الكوثري أو لغيره من الَّذين يخالفونه رأيه، فهذه آراء تتزاحم لإدراك الأصح، والنظر في كتب من يرد عليه قبل القبول أولى من الحكم باستقبال الشيء قبل معرفة ما قاله الآخر؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يحكم ينبغي أن ينظر في الأمرين على السواء ويستوفي، ويكون عنده قوة التمييز في هذا الأمر فيهدي إلى الصواب، وهذا خير من الحكم المطلق الَّذي يكون ارتجالاً أو عصبياً، سواء في جانب الممدوح أو في جانب المقدوح كل على حدٍّ سواء.
 
- فلا يصح للإنسان أن يهجم على هذا الجانب أو يتعصب لهذا الجانب أو هذا الجانب، لمجرد الاسم أو المكان أو الزمان أو الشائعات، فكثير من الشائعات تكون غير صحيحة، وكثير من الممادحات تكون غير صحيحة، وكثير من المقبوحات تكون غير صحيحة؛ والإنسان عليه أن يتعقل ويتدبر ويستهدي الله (عزّ وجلّ) وذلك خير الطرق - إن شاء الله -.
 
ثم وجِّه سؤال من الدكتور غازي زين عوض الله جاء فيه:
- ألا ترون أن تقنين الشريعة الإِسلامية من الناحية الفقهية مشروع يخدم القضايا الإِسلامية وأحكامها، ويكون لها بمثابة قانون تشريعي، وخصوصاً أن المسائل الفقهية لا تخرج عن جوهر السنَّة والاجتهاد؟
وردّ فضيلة الشيخ المحتفى به بقوله:
- هذا سؤال جميل جداً.. وأريد أن أخرج من مضمونه إلى كلمة واحدة، وهو لفظة التقنين التي يفر منها أو يتذمر منها كثير من الناس إذا أخرجناها من هذا اللفظ الَّذي هو قانون، أو هذا المعنى الَّذي هو معروف أنه غريب عن العربية وعن طبيعتها، وعن طبيعة المسلمين فيما نعلم؛ يعني تنظيم الفقه بقواعده وضوابطه وتحديدها وتجميعها، حتى نكون على قضاء واحد، على وجه واحد، على فهم واحد..، هذا يساعدنا كثيراً وهذا يفيدنا كثيراً؛ وليس معنى تقنين أنه شيء أجنبي صرف، حرام، التقنين معناه تنظيم الفقه باللهجة أو بالأسلوب الَّذي نتعلمه الآن؛ هناك أساليب كانت في القديم تكتب بها العبارات العلمية، تحولت هذه العبارات إلى أساليب جديدة في زمننا أو قبل زمننا، ثم تتحول بعدنا إلى أساليب أخرى، كلموا الناس بما يعلمون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله؟ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.
- فهذا التقنين ليس معناه التخريج أو إخراج الشريعة عن مسارها ومدارها أو مضمونها، لا، بل يراد من هذا تنظيم الفقه الإِسلامي حتى يعلمه الكبير والصغير في محيطه، فيكون التفقيه للناس مضبوطاً، ويعلم الإنسان عن الشيء حكمه قبل الدخول فيه.
- قال الحافظ ابن رجب (رحمه الله تعالى) في شرح كتابه: "جامع العلوم والحكم" سبب كثرة الحرام في مال الناس، أنهم يدخلون إلى الأعمال قبل معرفة أحكامها، فإذا دخلوا إليها وتوغلوا فيها ثم سألوا الشرع عنها فوجدوها حراماً، فصعب عليهم الخروج منها وبدؤوا يذهبون ويجيئون حتى يزحزحوا الشريعة إلى أعمالهم، فيكون من هذا الدخول في الربا، الدخول في المال الحرام، الدخول في المال المشبوه.. سببه أنه ما تفقه قبل الدخول فيه؛ وقد يكون هذا بسبب من الأسباب، ومنها الورود إلى هذه المسائل، فإذا نظمت ويسرت وعرفت للناس، فإنَّ في هذا فضلاً كبيراً خاصةً إذا كانت مع المحافظة على جوهر الإِسلام ومقصد الشريعة المطهرة، وبدقة وأمانة تامة علمية فلا شيء في هذا؛ فكلام أبي حنيفة قانون للشرع، كلام الإمام أحمد قانون للشرع، من حيث هو نظام للشرع، ترتيب للشرع، وهكذا..، من حيث لا نفر من كلمة قانون بمجرد سماعها، نفر من الدخول على الشريعة لتغييرها، وتنزيل الشريعة على أحوال الناس، بل نشد أحوال الناس إلى الشريعة، حتى تكون الشريعة حكماً في سلوكهم.. وأعمالهم.. وقلوبهم.. وأفكارهم.. وعقولهم..، فنكون مسلمين حقيقة - والله أعلم -.
وسأل الأستاذ محمود مرسي من جريدة السياسة سؤالاً جاء فيه قوله:
- فضيلة أستاذنا الكريم، أسعدني كثيراً ما سمعته عنكم الليلة من قولكم في كتاب: (صفحات من صبر العلماء): "الكتب في حياة العالم تحل محل الروح من الجسد والعافية من البدن" فقد ردني هذا النص الجميل إلى ما قاله حكيم الرومان القديم شيشرون، ويكاد هذا المعنى يتوارد مع ما قاله شاعر عربي لا أذكر اسمه:
قال شيشرون مقالاً حبـذا قـول نصـوح
إن بيتاً دون كتب مثل جسـم دون روح (1)
- في ظلال هذه المداخلة الهامشية، أود أن أسألكم عن تجربتكم في تأليف مكتبتكم التي تضم عشرات الآلاف من الكتب، كيف تفرغتم - هكذا - للسعي وراء الكتب، وكيف نجحتم في التوفيق بين نشاطكم البحثي، وبين شواغل الحياة اليومية التي يصعب الاعتزال عنها؟
وأجاب فضيلة الشيخ على السؤال بقوله:
- أقول في هذا الجانب الَّذي تفضل الأخ الكريم بالسؤال عنه، أذكر كلمة لشيخ العربية وعلامتها محمود بن عمر الزمخشري، معروف - بأنه شيخ العربية - له كتاب فيه كلمات حكيمة يقول فيها في أمر الكتب: (مجد التاجر في كيسه، مجد العالم في كراريسه) وله كتاب صغير اسمه: (نوابغ الكلم) يعني الكلمات النابغة يدون فيها كلمات.. من أولها: "السنَّة منهاجي ومنها أجيء، عيني تَقَرُّ بكم عند تقربكم".
- فالكتب من حيث هي في الحقيقة الرئة والروح للعالم الَّذي يريد أن يزداد علماً، وأما جمعها والصبر عليها فله طرق كثيرة للمتيسر ماله.. فعنده قدرة وخير كثير؛ فيمكن أن يشتري..، والَّذي ليس عنده مال فيمكن أن يقتصد، والعلماء في السابق يقتصدون من طعامهم وشرابهم لشراء كتبهم؛ إبراهيم الحربي (رحمه الله تعالى) تلميذ الإمام أحمد (رحمه الله) أملق إملاقا شديداً وعنده بنتان صغيرتان وزوجة؛ فجاع الَّذين في أسرته جوعاً شديداً، فقالت له زوجته: يا إبراهيم هب أني صبرت على الجوع، ولكنَّ هاتان الصغيرتان كيف تصبران على الجوع؟ قال ماذا أفعل؟ قالت بع من كتبك وأطعمنا؛ قال: اصبري، اصبري؛ ولكنها صبرتْ على الصبر ولم تصبر على الصِّبْرِ.. يعني على مرارة.. ولكن هو جلس على باب داره - كعادة العلماء في يوم من الأيام - فما شعر إلا ورجل يمشي من أسفل الشارع يسأل عن بيت إبراهيم الحربي، فيقول له الناس أمامك أمامك حتى وصل رجل معه جملان؛ قال أين بيت إبراهيم الحربي؟ قال هذا.. قال أين إبراهيم الحربي؟ قال أنا.. ماذا تريد؟ قال إن رجلاً من خراسان بعث لك ما على هذين الجملين، فأنا أمين عليهما أن أوصلهما لك.. فافتح الباب.
- وهذا شيء ما كان في حسبان إبراهيم الحربي، وحينئذٍِ دخل على زوجته وصفق لها حتى تخرج من الدهليز إلى داخل البيت، فدخل الرجل وألقى هذه المحولات على الجملين، ومنها الورق، ومنها أطعمة كثيرة، وملابس راقية قدمها..، فقال له إبراهيم الحربي من أين هذا؟ قال من رجل من خراسان.. قال من هو؟ قال حلَّفني ألاَّ أقول..
- فصبر إبراهيم الحربي على الجوع وما صبر أن يبيع كتاباً من كتبه، لأن الكتب رئة العالم ووجوده، فالإنسان يمكن بشيء قليل أن يصبر ويستدين ويحتال، وما تأكله أيها الأخ في سبيل اللقمة الطيبة بعد قليل يتساوى مع غيره، ولكن الكتاب في طبيعته يدخر لك وجودك إلى آخر الحياة.
- يمكن أن تكون هناك طريقة كنت أسهل بها على نفسي شراء الكتب الغالية الكبيرة، فأجد الكتاب بعشرة أضعاف، وأنا ما عندي إلاَّ الدريهمات القليلة؛ فأقول هذا الكتاب سأشترية مرةً في العمر فإذا غلبت فيه فالمال يمكن أن يتجدد، ويمكن أن يتردد، ويمكن أن يعوض، ويمكن أن أجد الدراهم مرةً ثانيةً؛ أما هذا الكتاب فلا يمكن أن أجده في مرة ثانية فأشتريه؛ واشتريت مرةً كتاباً بسبعين ليرة من سورية، ثمنه فيما يقدر خمس ليرات أو ست ليرات، ولكنه كان يحز في قلبي فقدي له، فدفعت فيه هذا الثمن وأنا في طبيعتي منقبض ولكن في سريرتي فرح مبتهج، لأن الكتب في طبيعتها هي التي تعلم الإنسان الدقة والضبط والعلم والمعرفة، وتعرفه بفضائل هؤلاء الأئمة؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يستكثر من الكتب، ولكن لا ينبغي أن يكون كما قال القائل:
وكم للشيخ من كتب كبار
ولكن ليس يدري ما دحاها
فظن أن كثر الناس فخر
فمال إلى البطانة فاشتراها
 
- لا.. لا ينبغي أن يكون هكذا.. يكون سوسة الكتب، يقرأ ويدرس ويحفظ وينقل ويحرر..، فإذا به ينطبق فيه هذا خُلقاً وخَلقاً.. والله ولي التوفيق.
 
وسأل الأستاذ بكري كبة قائلاً:
- تفخر المملكة العربية السعودية بوجود الآلاف من العلماء الأجلاء من كافة الأقطار الإِسلامية، وفضيلة الشيخ أقام بين ربوع المملكة - وبالأخص في ربوع نجد - منذ مدة طويلة؛ والسؤال: من من العلماء الأجلاء السعوديين ممن تأثرتم بهم وأخذتم عنهم؟
وردّ فضيلة الشيخ أبي غدة قائلاً:
- هذا سؤال لطيف حبيب جداً، أنا قبل أن أدخل بلاد نجد كنت كسائر الناس أحج الحرمين الشريفين، وأقتبس من هذه المقدسات التي أكرمنا الله بها وأعزنا بها، وجعلها روحاً وريحاناً للقلوب والأبصار؛ فأخذت عن مشايخ متعددين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أذكر منهم - ولكنهم درجوا إلى رحمة الله (تعالى) وهم كانوا شيوخ هذه البلاد في مكة والمدينة - منهم: سماحة الشيخ علوي المالكي، والشيخ محمد العربي التبَّاني، والشيخ محمد نور سيف، ومحمد أمين كتبي (رحمهم الله) والشيخ حسن مشاط، وشيخ شيوخهم محمد يحيى أمان؛ وكنت حقيقة أحبهم، وكانوا لفضلهم وتواضعهم يحبونني، وكنت أقتبس منهم فضلاً كبيراً وعلماً غزيراً، وأتردد عليهم وأستقي منهم..، فجزاهم الله عني خيراً إلى خير الآباد.
- فهذا من فضل الله (عزّ وجلّ) عليَّ حينما كنت أتشرف بزيارة الحرمين، ثم لما قدر لي التوجه إلى التدريس في كلية الشريعة بالرياض، كان بيتي قريباً من المسجد الَّذي يكون فيه إمام هو من أئمة المسلمين، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (رحمه الله) فكان له درس بين المغرب والعشاء، يقرأ تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير، وغيرهما من الكتب.. فكنت أجلس بحضرته وأستمع له، وكان هو شيخاً.. إماماً.. عالماً.. رزيناً.. حصيناً..، لا تخرج منه الكلمة إلا بوزنها وموضعها، ولا تهزه الأباطيل، ولا يتحرف عن الحق ما علمه؛ وهذا ما كتبته منذ عشرين سنة ولا أقول الآن، ونشرت تلك الترجمة مجلة الدارة في الرياض، فهذا الرجل استفدت من علمه كثيراً، وفضله وخلقه؛ فإنه كان رجلاً يمثل أخلاق السلف في مجلسه، وكنت أجلس في مجالسه في بيته في بعض الأحيان، فتجد الحاضرين صموتاً وهو صامت، ولكنهم كما قال القائل:
إذا سكتوا رأيت لهم جمالاً
وإن نطقوا سمعت لهم عقولا
 
- هكذا كان يسمع، ولا يتكلم إلا كلاماً معدوداً، ولكنه كلام مشهود مرموق مقدس، لأنه يتكلم بعلم ورزانة؛ فهذا من شيوخي في هذه الديار (رحمهم الله جميعاً، وجزاهم الله عني خير الجزاء) وأنا أعتز بهذه الفضيلة في هذه الديار المقدسة، وأنا أعتز بأن كتب الله أن أخدم هذه الجموع التي كرمني الله بتدريسها، فإنها من خير الجموع وخير الطلبة؛ وأسأل الله التوفيق والسداد.
 
وسأل الأستاذ عبد السميع محمد راضي قائلاً:
- نودُّ معرفة أكثر الناس تأثيراً في حياتك فكراً ومنهاجاً ولماذا؟
وأجاب المحتفى به قائلاً:
- الشيوخ الَّذين يصاحبهم الإنسان يتأسى بهم ولا ريب بحسب عواطفهم، بحسب غزارة علمهم، بحسب نصاعة عقلهم، بحسب ذواتهم الشخصية، بحسب استقلالهم بحسب شكيمتهم..، وهم كثيرون، ولكن كل واحد منهم كالورد المشموم يوجد في هذا من الرائحة الزكية الطيبة العطرة ما لا يوجد في ذاك، فإذا جمعوا كانوا مجمع فضائل ومجمع طيب للإنسان، فأول ما درست تأثرت بفضيلة الشيخ عيسى البيانوني وكان من كبار شيوخي (رحمه الله) كان فقيهاً شافعياً، وأديباً في أخلاقه وعلمه وتقواه، فتأثرت به، وكان من قرب بيتنا لبيته فائدة كبيرة، وكنت أصلي عنده وأستفيد منه.. فتأثرت به كثيراً.
- وتأثرت - أيضاً - بفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا (حفظه الله تعالى) فتعلمت منه العلم والفقه والعقل.. وهذا شيء لا يوجد في الكتب، تعلم الإدراك، تعلم البصيرة، تعلم المعرفة، تعلم وزن الأمور، تعلم إيرادها وإصدارها..، فهذا - أيضاً - من هؤلاء.
- كذلك ممن تأثرت بهم الشيخ مصطفى صبري شيخ الإِسلام (رحمه الله تعالى) في الخلافة العثمانية، وكذلك الشيخ زاهد الكوثري (رحمه الله تعالى) كل واحد عنده علم وفضل، ولكن الأصل في الإنسان أن يكون كالنحلة يمتص الأزهار، ولا يقع على الشجرة التي تكون فيها لون ولونان مختلفان؛ فلذلك كل هؤلاء لهم فضل عليَّ.. فجزاهم الله خيراً.
- واستفدت منهم بحسب قدرتي وحسب مكانتي، ولكنهم فوقي بمقام بعيد؛ فجزاهم الله خيراً ورحمهم.. ولكل هؤلاء فضل، وقد أستفيد من طالب من طلاب طلابي؛ لأن المعرفة ليست قاصرة على الكبار، قال العلماء: "يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار" وقال وكيع بن الجراح: "ينبغي للعالم أن يأخذ عمن فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه".
- فأنا أستفيد من طالب العلم ومن طلبتي في بعض الدروس، أستفيد منهم ولهم الفضل عليّ؛ فالفضل في العلم لا ينحصر في شيخ فقط، ولكنه موزع على الشيوخ بحسب مذاقهم ومكانتهم وعلمهم؛ فهؤلاء شيوخي.. رحمهم الله تعالى وجزاهم الله عني خيراً، وغفر الله لي ولهم وللمسلمين.
 
ومن الأستاذ عبد الحميد الدرهلي ورد السؤال التالي:
- ما هي الأسباب التي تدفع فلاسفة الغرب ومفكريه إلى طرح الإِسلام كعدو مرتقب للحضارة الغربية؟ وهل هي محاولة خبيثة لإحياء روح الحروب الصليبية في القرون الوسطى؟ ما الَّذي علينا عمله لمواجهة هذا التحدي؟
وردّ المحتفى به قائلاً:
- هذا سؤال كبير عريض على جسمي.. وأنا أتكلم في كليمات منه؛ قال الله (عزّ وجلّ): ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وهم لا يهدؤون حرباً وإن سكتوا سلماً، ولكنهم في بطونهم نار على الإِسلام، لأن الإِسلام أخذ أرضهم وحول شبابهم إلى الحق المبين، ونقلهم من السعير إلى النعيم، فهم يرون أنفسهم أن كل شيء خرج من أيديهم كما تعلمون، فلهذا يكيدون للإسلام بمختلف الأساليب، وما الحروب الصليبية - ونحن في بلاد الشام وهم في تلك البلاد الغربية - إلاَّ نوع من هذا القلب الأسود على الإِسلام، لأنه لو استمر على حقيقته ودخل تلك الديار لأخرج أهلها من الظلمات إلى النور، لأن ذاتية الإِسلام هي التي تفتح القلوب.. لا الداعي ولا الشخص، ولكن العاقل الحصيف إذا سمع الإِسلام الصحيح من قول الله (عزّ وجلّ) أو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ينصدع قلبه إلى الحق، يتوجه إلى الحق، لأنه صاحب فطرة فطر الله الناس عليها: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
- فهم يغارون من الإِسلام ويغارون من ثقافته ومن علومه، ولما يجدون في كتبنا: الفقه المنظم، والحديث المسجل، والرواية التامة، والضبط الصحيح، والإتقان العجيب، وما إلى ذلك.. يدهشون من هذا ويغارون منه..، من حيث إنه علم ووسام فخر؛ ويغارون - أيضاً - أن الإِسلام لو دخل إلى بلادهم لحولها إلى بلاد الإِسلام، ولذلك كانت الحروب الصليبية في ذلك الحين يقوم بها النصارى يدفعهم اليهود، فاليوم تناوبوا في الأمر.. فقامت النصارى يدفعون اليهود على عكس ذلك؛ ولكن لن يهدأ لغير المسلمين من أعداء الإِسلام قلب ولا نبض بسلامة مع الإِسلام.. فلا نغتر بهذا، ولكن ليس معنى هذا أن نكون هكذا مخاصمين مقاتلين من لقينا بالسلام.. أو التحية.. أو الإحسان.. أو الأدب..، لا، لا، نكون في هذه المرتبة حطباً وشوكاً على غيرنا لأننا دعاة للإسلام، ينبغي أن نترجم الإِسلام بالسلوك.. والأدب.. والحكمة.. والعدل.. والإنصاف.. كيف هذا؟
- لما فتحت سمرقند، هذه البلدة التي كانت مشع العلم في صدر الإِسلام.. فتحت عنوة، كان ذلك قبل ولاية الخليفة عمر بن عبد العزيز، فتحت عنوة.. فلما جاءت الخلافة لعمر بن عبد العزيز سمع أهل سمرقند الَّذين هم من غير المسلمين بعدل عمر بن عبد العزيز وفضله وتقواه، إلخ.. فجمعوا منهم وفداً مختاراً وأرسلوه إلى دمشق ليشكوا حالهم عندما غلبوا على أمرهم؛ فلما وصلوا إلى عمر بن عبد العزيز قالوا له: سمعنا من عدلك.. وفضلك.. وعقلك.. وحصافتك.. وأمانتك ما رغبنا وشجعنا أن نأتي إليك شاكين أمرنا، فإنَّ الناس دخلوا علينا بغير رضى منا.. قال فلماذا تكلفتم هذه المشقة؟ قالوا حتى نعرض قضيتنا عندك؛ قال لا تحتاجون إلى هذا، عليكم بالقاضي الَّذي هو عمر بن فلان الطلحي - كما أحفظ اسمه - هناك، لا تحتاجون إليّ، فقالوا: الشيخ يعني يحولنا إلى مجلس الأمن؟ إلى غيره..، فرجعوا فلما ذهبوا إلى هناك طلبوا الأمر من القاضي، فجمع القاضي رؤساء الجند من المسلمين ورؤساء الجند من غير المسلمين، وسمع من هؤلاء ومن هؤلاء، وحكم على المسلمين بأن يخرجوا من الديار بعد أن ظلوا فيها لأكثر من سنتين، أن يخرجوا ويسلموا الديار لأهلها.. أهل الفساد والشرك والاعتقاد الفاسد؛ فلما وجدوا أن القاضي حكم هذا الحكم قالوا: رضينا بكم سادة وقادة وحكاماً، وفتح الله قلوب أهل سمرقند فأسلموا، وخرج منهم مثل البخاري ومسلم.. لماذا؟ بهذا الخلق الصحيح.. والدين الصحيح.. والعدل..، وهذا شيء مسجل في كتب التاريخ قديماً.
- فلذلك حينما نحن ننظر إلى الغربيين هذه النظرة.. وهم يحقدون علينا هذا الحقد، لا يقتضي منا أن نكون - دائماً - حسكة في العين، لكن إذا غالبونا غالبناهم، وليجدوا فيكم غلظة حينما يخرجون إلى الغلظة، ولكن ليس المسلم بالغليظ.. ولا بالفحاش.. ولا القتال.. ولا النمام.. ولا الكذاب.. ولا بالسيء.. بل العكس الإِسلام حرم على المسلم الغش في غير المسلم.. ربما كان أكثر من المسلم، فلذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من غش فليس منا قد يظن بعض الناس من غشنا يعني نحن المسلمين، لا، الغش هو رذيلة في ذاته، سواء كان وقع على أحمد أو على جورج؛ الغش في ذاته رذيلة، لذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منا".
- فالغش هذا منهي عنه سواء في جنب المسلم أو جنب الكافر، لأن ديننا يأمرنا بالعدل.. والإنصاف.. والتقوى.. والورع..، وهذا هو مفتاح القلوب في نفوس هؤلاء، فحينما نريد أن يكون لنا الخير الكثير الَّذي أنعم الله علينا به في هذه العقيدة الإِسلامية، ينبغي أن نكون على هذا الخلق الإِسلامي، الَّذي كان عليه التابعون، وعمر بن عبد العزيز، وأمثاله.. رحمهم الله (تعالى) حتى يفتح الله لنا الخير، ويهدي بنا قلوباً غلفاً وعيوناً عمياً..، لأن هـذا النور إذا جاء تفتحت له القلوب - والله أعلم -.
 
ثم سأل الأستاذ محمد رضوان سؤالاً جاء فيه قوله:
- في الآونة الأخيرة ظهرت جهود كثيرة لاستخدام الحاسب الآلي في العلوم الشرعية.. ومنها علم الحديث الشريف؛ فما رأي فضيلتكم في ذلك
فأجاب فضيلة الدكتور عبد الفتاح بقوله:
- هذا الأمر فيه منَّة عظيمة وتيسير كبير لخدمة السنَّة وسائر العلوم، ولكن السنَّة - أيها الإخوة - كانت وما تزال تقوم على حفظ الذاكرة، لأن المحاكمات فيما بين الأحاديث لا يأتي بها هذا الحاسب الآلي ولا هذا الجهاز، لأن هناك حفظاً للألفاظ يأتي بها على سرعة سريعة هذا الحاسب الآلي ويأتي بها مجتمعة، وهكذا.. ولكن إذا نظرتم للإمام الطحاوي (رحمه الله تعالى) الإمام الطحاوي من السادة الفقهاء الأحناف، له كتاب صغير في الفرق بين حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، هو يرى أن هذه الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد، والإمام مسلم بن الحجاج (رحمه الله) قبله يرى الفرق بين حدثنا وخبرنا وأنبأنا.. كل واحد يعبر عن شيء؛ فإذا نظر الإنسان في رسالة هذا الشيخ الطحاوي (رحمه الله) وقد استوعب الأحاديث والآثار التي توحد وتدل على أن أخبرنا وحدثنا وأنبأنا بمعنى واحد؛ استوعب الآيات.. فعماده في ذلك لم يكن الكمبيوتر أو الحاسب الآلي، إنما كان عماده الحفظ؛ فالحديث يعتمد الحفظ وهذا قل فينا؛ وما يغرب عنكم الآلة الحاسبة هذه نومت الأذهان، ورقدت القرائح، وجعلت الفتور والكسل في العقل؛ صحيح هي مفيدة.. ولكن أضاعت النبوغ.
- فلذلك لا بد إلى جانب هذا الحاسب الآلي - وهو فضل جسيم كبير - من أن يكون هناك علماء حفاظ يحفظون الأحاديث فنسألهم فيجيبوا، لأنه إذا كان علمنا في صدورنا، فحيث نكون في السوق، أو في المسعى، أو في مكة، أو المدينة، يكون العلم في الصدر؛ فلذلك الحاسب الآلي مفيد والخدمة فيه الآن قائمة على قدم وساق، وقد كنت أحد أعضاء ندوة أقيمت في قطر السنة الماضية - أو قبلها - لتوحيد هذه الجهات التي تجتهد في استخدام الحاسب الآلي، وسمينا اتحاد المجامع العلمية لخدمة الحاسب الآلي؛ ولكن لم يتم هذا التجميع على وجهه الكامل حتى يعطي هذه الثمرة، ولكن حيث تكثر الهمم وتتوجه العزائم إليه، لا بد أن يولد - إن شاء الله - ويوجد فيه خير كثير؛ ولكن ليس العلم للحديث الشريف بوجه خاص يعتمد الحاسب الآلي، يعتمد مثل الحافظ ابن حجر عندما روى حديث: "إنما الأعمال بالنيات". قال رجل من المحدثين أخرجه فلان من سبعمائة طريق، قال الحافظ ابن حجر تعقيباً على هذا بعدما نقله: قرأت من الأجزاء نحو ألف وخمسمائة - أو ألفين - جزءاً مع سائر الكتب التي وصلت إليها يدي ما وصلت إلى أكثر من سبعين طريقاً.
- هناك ميسرات منها الحاسب الآلي، تنفع وتيسر كثيراً على الناس، ولكن عماد الأمر من أوله وآخره حفظ الذاكرة، والتي تتمتع بالعقل والتحكيم الفكر والمزاولة والمحاكمة بين الأحاديث، لأنه إذا كان هناك حديث صحيح وحديث غير صحيح، والمعنى في هذا غير هذا، كيف يفهمه الحاسب الآلي هذا غير ممكن.. لا بد من العقل البشري الصالح لأداء هذه الهمة، والله ولي التوفيق -.
 
وسأل الأستاذ عثمان مليباري موجهاً سؤاله إلى المحتفى به قائلاً:
- بالتأكيد هناك عزائم خارقة وجهود جبارة بذلت من قبل العلماء الأوائل، من أجل تحصيل العلم وتدوينها في كتب ومصنفات؛ نأمل منكم التحدث عن هذه الجهود مع الشكر؟
فردَّ الدكتور أبو غدة قائلاً:
- أذكر لكم حادثة ربما تفيد في الموضوع شيئاً.. هناك رجل من العلماء يسمى أبا بكر الأنباري من علماء اللغة العربية، والتفسير، والقرآن، والحديث؛ كان يحفظ ثلاثة عشر صندوقاً.. يعني بالصناديق.. هناك محدث اسمه الجعابي، ومقابله محدث آخر اسمه الشاذكوني، التقى الشاذكوني والجعابي في مجلس فتحادثا، فكل واحد يدعي أنه أحفظ من صاحبه، ثم قال أحدهما للآخر هلم بنا نذهب إلى القبان ويؤتى لنا بالكتب فتوزن، ثم تعرض علينا فنقرؤها.. هكذا الحافظة..
- بهذه الحافظة كان هؤلاء العلماء.. مثل سيبويه، مثل الخليل بن أحمد، مثل ثعلب يمرون، على الكلمة فتخلد في قلوبهم وعقولهم تماماً، مثل الإمام البخاري، والشيخ ابن تيمية (رحمه الله) يحفظون من النظر، لأنه لو أراد أن يحفظ تكرارا ًمن الحفظ والسماع ما وسعه العمر كله، ولكنه هكذا يمر على الشيء فيخلد في خاطره، فيكون عند هؤلاء حوافظ عجيبة إذا وقعت في مصاف العلماء أتت بالعجائب.
- أذكر أني كنت ألازم درس بعض شيوخي في حلب، الشيخ جميل العقاد (رحمه الله تعالى) وكان من العلماء الفضلاء، فكنا نحضر حلقته في المسجد الجامع الكبير ويقرأ الأحاديث، ويحفظنا إياها في المجلس، فيأمرنا أن نعيدها، وعندنا كان واحد من الأحباب أصغر مني سنّاً - نسيت اسمه الآن - يسمع ما نسمع ونحن نقرأ ونكتب.. فنقوم فنحفظ، ولكن هذا الأخ عندما يقول الشيخ هذا الحديث يقول له: قم يا فلان فيقوم، فيقوله تماماً؛ هذا الأخ كأنه مسجل في زمننا الحاضر، ماذا صار بهذا الأخ؟ التوى به الطريق فرأيته يبيع على العجلة والعربية التي يجرها الإنسان خضرة، لأنه ما تيسر له سبيل العلم فماتت حافظته، وماتت مواهبه..، لأنها ما وجهت.
- وكذلك البخاري (رحمه الله) لو أن مواهبه صرفت في غير العلم لذهبت مع الذاهبين؛ كذلك الشيخ ابن تيمية هذه الكتب التي دونها لا يحصيها هو ولا يحصيها من بعده، وكلها كلام رصين فيه علم، وفيه أدب، وفيه قوة، وابن تيمية ليس معصوماً؛ ولكن في قوله قوة، وفيه جزالة، وفيه حفظ.. وهو ينقل بعض المذاهب عن أصحابها ويدونها بألفاظ أجمع.. وأدق.. وأفضل.. وأبرع من أصحابها؛ فتجد عنده الكلام مصفى وعند أصحاب هذا المذهب الكلام يقوم ويقعد.
- ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. فلا بد من الحوافظ، فهؤلاء مثل: ابن الأنباري (رحمه الله) الَّذي قدمت حديثي فيه، هذا كان في خلافة بعض العباسيين فتأخر عن مجلس الملك - نسيت اسم الملك الآن حتى لا أغلط فيه وكان يحضر مجلسه في مناسبات معينة - فسأل عنه الملك؟ قالوا: تأخر، ثم لما جاء سأل عن سبب تأخره؟ قالوا: ذهب إلى سوق النخاسين حيث تباع الإماء وتشترى، وهناك انتقى امرأة ليتزوجها أو يشتريها، ولكن بعد ذلك لم يتوجه إليها؛ فعلم الملك بهذا واستعلم عن صورة هذه التي اختارها، فأمر بعض حواشيه وأسبابه - يقولون الأسباب في القديم بمعنى الحواشي - وأمرهم بشراء هذه الجارية.. فاشتروها، فلما رجع الشيخ إلى بيته وجد الجارية تنتظره على الباب؛ قال ما هذا؟ قال أمر الملك أن تكون عندك، قال: ادخلي.. فدخلت ودخل معها من دخل؛ وجلست، بعد ذلك توجه الشيخ إلى غرفة الكتب نصف ساعة، ساعة، ساعة ونصف، ساعتين، ثلاث ساعات، طال الأمد، قامت دقت عليه، قالت يا شيخ أريد كلمة، قال مشغول؛ قالت أريد أن أكلمك بحرفين فقط عن شأني أنا؟ قال لا تشغليني عندي مسألة ما فرغت منها؛ صبرت عليه، فلما فرغ من مسألته التي يراجعها قالت له: وأنت شيخ وقور معروف بالتقوى والعلم، إذا خرجت من عندك يظن الناس بي سوءاً، أريد أن أعرف لماذا لا تريدني؟ قال: لأنك شغلت قلبي عن العلم.. ثم أعتقها أو طلقها لأنه لم يردها.
- هذه قِصَّة تدل على تعلق هؤلاء بحفظهم أكثر من علمهم.. ومن القريب الجليل جداً، هناك عالم يسمى الشيخ خليل الخالدي من فلسطين، هذا الرجل توفي سنة 1360هـ من قريب، هذا الرجل كان عالماً وشيخ القضاة في فلسطين وفي تركيا زمن العثمانية؛ وكان ميسور الحال حافظاً قوي الحافظة، ذهب إلى أوروبا وبلاد تركيا لانتقاء الكتب وحب معرفتها، ثم في آخر حياته - وهو فريد في مصر - رغب أهله أن يعود إلى بلده، فلما جاء عزموا عليه أن يتزوج وألحوا عليه وخطبوا له، وعقدوا له، وجاؤوا له بالعروس إلى بيته، فلما جاؤوا بها إلى بيته ودخلت عليه.. فجلست هكذا، فترك الشيخ البيت وذهب إلى الطابق العلوي يراجع.. فصبرت ساعة، ساعة ونصف، ساعتين.. بعد ذلك خرج وقال لها: أنا لا أطيق أن أتزوج فسامحيني، فطلقها بعد أن عقد عليها وهي في بيته وآنسه وجودها كل المؤانسة، ولكن العلم أحب إلى قلبه.
- وسمعت من بعض شيوخي في حلب، الشيخ فيض الله الأيوبي.. أنه كان في مدرسة، وكان في هذه المدرسة طلبة صالحون، وجاء رجل من الأتقياء الأثرياء يريد أن يزوج ابنته أحد هؤلاء الطلبة، فقال لشيخ المدرسة: أريد أن تختار لي رجلاً من هؤلاء الطلبة صالحاً أزوجه ابنتي وعندي من المال ما يغمره ويغمرها فقال: هذا الطالب الرجل الصالح المجتهد، قال التقي الثري: اسأله، فقال شيخ المدرسة للطالب الصالح: إن هذا الرجل يريد أن يزوجك ابنته؛ قال الطالب: يا سيدي أتسمح لي أن أستشير وأستخير؟ فغاب يوماً ثم حضر في اليوم الثاني وقال: يا سيدي الشيخ اعذرني لن أقبل الزواج، ولو كان ممزوجاً بالمال والتكريم والتعظيم؛ قال الشيخ: لماذا؟ قال: البارحة كلما ذكرت الزواج تنغص قلبي وأصابني كرب في نفسي، وكلما قربت الكتاب إلى قلبي انشرح صدري وفرحت نفسي، فلا أستطيع الزواج؛ كذا يحترق العلماء بالعلم.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :809  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 154 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج